Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. عادل خميس الزهراني

في العلاقة بين الرواية والسينما.. التاريخ والتقاطعات

A A
العلاقة بين الرواية والفيلم السينمائي وثيقة جداً، هذه نتيجة يمكن أن نطمئن لها، ذلك لأن عمادهما الأساسي هو الحكاية.. فبلا حكاية، لا يكون هناك رواية، ولا فيلم سينمائي.. وقد بدأت العلاقة منذ بداية ظهور الأفلام؛ إذ يرى الناقد والمؤرخ السينمائي لوي دي جانيتي أن رُبع الأفلام الطويلة كانت معتمدة على نصوص أدبية سابقة.. ما أنتج ما يدعى في عالم السينما بـ»الفيلم المقتبس»، الذي يتبنى «رواية» مطبوعة، ويقدمها للجمهور عن طريق المحاكاة والاقتباس (adaptation)، ويشير الناقد قراهام بيتري، بروفيسور الدراسات الأدبية والسينمائية، إلى أن أول فيلم اعتمد على قصة مطبوعة كان فيلم (الساقي يُسقى، أو راش الماء يستقبله L’arroseurarrose) الذي ظهر في العام 1895م، معتمداً على قصة كريستوف المصورة.. كان هذا فيلماً قصيراً (في أقل من دقيقة)، لكن التاريخ يثبت أن المحاولات الأولى في السينما الروائية اعتمدت على منتجات أدبية وأعمال مسرحية موجودة سابقاً، شكّلت المصدر الأكبر للسيناريوهات السينمائية.

وقد مثل دخول الصوت إلى عالم الأفلام السينمائية مرحلة مهمة في العلاقة بين الأدب والسينما، حيث «أصبح النص السينمائي أكثر تعقيداً ودقة»، ما أدى إلى جذب «عدد كبير من الشخصيات الأدبية المعروفة إلى هذا الوسط السمعي البصري»، كما يؤكد جانيتي.. وكانت النتيجة ظهور عدد أكبر من الأفلام المعتمدة على روايات ومسرحيات كلاسيكية وحديثة لشكسبير وشارلز ديكنز وجين أوستن وغيرهم.. لكن هذا لا يعني أن العلاقة كانت وردية وصافية على الدوام، فقد كان الجدل -ولا يزال- قائماً حول فكرة تبني الأفلام لأعمال روائية وحول طبيعة هذا التبني.. يشير قراهام بيتري إلى أهم الأسئلة في هذا الجدل:

إلى أي حد يجب على الفيلم (أو يمكن له) أن يكون أميناً مع مصدره الأصلي؟ وما الأبعاد والتقنيات الأدبية والمسرحية التي تتسق وطبيعة الوسيط السينمائي؟ وما تلك الأبعاد التي لا تصلح ولا يمكن نقلها؟ وما مساحة الحرية المتاحة لصانع الفيلم مع العمل الأدبي؟ وهل ينبغي على الفيلم أن يكون مرتبطاً بالأصل الأدبي؟ أو يمكن النظر إليهما باعتبارهما عملين مختلفيْن ويحكم عليهما وفقاً لهذه النظرة؟

اليوم، وبعد هذا التاريخ بين السينما وعالم الأدب (الروائي على وجه الخصوص)، لا تبدو الإجابات الحاسمة على هذه الأسئلة أمراً متاحاً؛ فمن جهة، كثيراً ما يشتكي الأدباء من خروج أعمالهم الأدبية بصورة مختلفة على الشاشة، تبتعد عن هدف الرواية وتشوهها أحياناً، بينما يعيب المتخصصون في صناعة السينما -من الجهة الأخرى- على الأدباء عدم فهمهم لطبيعة السينما وشروطها الفنية الخاصة.. ورغم ذلك فقد أنتجت العلاقة بين الرواية والسينما -عبر تاريخها الطويل- أعمالاً ناجحة وخالدة، أعمالاً لشارلز ديكنز، وفيكتور هيقو، وهنري جيمس تحولت لأفلام سينمائية شهيرة عالمياً، وكذلك حققت أعمالا سينمائية عربية نجاحات مختلفة بعد تبنيها رواياتٍ لطه حسين ونجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس وغسان كنفاني وغيرهم.

وهكذا، «تبادلت السينما مع الأدب -كما يرى فيصل الزعبي- لعبة البناء والشكل، وحيلة تطويع السرد الفني».. فقدم الأدب للسينما الحكاية، وشعرية اللغة، والرؤية الفلسفية المتجاوزة للسطح، الملامسة لجوهر الأشياء والقضايا.. وقدمت السينما للأدب الشهرة والتسويق، وأعادت إحياء أعمال أدبية قديمة، كما قرّبت كتاباً ينتمون لعالم الكتابة الرسمي من مخيلة الجماهير البسيطة، وبذلك أسهمت في ردم شيء من الهوة بين الأدب والمجتمعات.

وكما يقول جيل دولوز: «لا تقدم السينما صوراً فقط، بل تحيطها بعالم»، فإن السينما تسهم في بناء عالم متصور للعمل الأدبي الذي يظل «مجرداً» يسبح في فضاء متخيّل، حتى يأتي الفيلم أحياناً، ويربطه -عبر الصورة- بمكان معين، وزمن محسوس، وصور أبطال كذلك.. هكذا تحضر صورة الممثل الأمريكي الشهير «ليوناردو دي كابريو» في ذهن من يقرأ رواية فيتزجيرالد الشهيرة (The Great Gatsby - قاتسبي العظيم)، لأن دي كابريو مثّل دور البطولة في الفيلم الذي يقتبس الرواية، وكذلك تفعل صورة الفنان عادل إمام مع بطل رواية (عمارة يعقوبيان) لعلاء الأسواني.. هكذا يجسد الفيلم الأشخاص، والأماكن، والأحداث، حتى لا تعود مجرد أشياء في الذاكرة، بل أشياء محسوسة، ذات بُعدٍ فيزيائي حقيقي، ولها شكل خارجي.. ولعل هذا يوثّق الشخصيات في نفوس المتلقين، ويجعل القصص أكثر واقعية بعدما بدت أسطورية أو خيالية مجردة في الأعمال الأدبية.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store