Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. عادل خميس الزهراني

مهرجان سيدي بوسعيد للشعر.. تهميشات نقدية

A A
وجد ضيوف الشرفِ أنفسهم وحيدين في مطعم من مطاعم أيام زمان؛ غيّر المنظمون المكان والوقت والجدول دون أن يعودوا إليهم، ربعنا كانوا ضيوفَ شرفٍ بالفعل، اللهم لا اعتراض.. لكنّ القلوب كانت أشرح، فقررت أن تغفر، لأن المنظمين تونسيون، قلوبهم بيضاء، وأرواحهم خفيفة على القلب.

أتحدث هنا عن المهرجان العالمي للشعر الذي استضافته قبل يومين مدينة سيدي بوسعيد التونسية للمرة الثامنة، واختار السعودية لتكون ضيف شرف لهذه الدورة.. كانت فرصة جميلة لأن يركز المهرجان على التجربة الشعرية السعودية، عبر مشاركة عدد من شعراء القصيدة الحديثة أمثال أحمد الملا وهاشم جحدلي وبديعة كشغري وغسان الخنيزي وصالح زمانان وزياد السالم وإبراهيم الحبيب وروان طلال وغيرهم، كما دشن المهرجان أنطولوجيا الشعر السعودي المعاصر، الذي صدر حديثاً ويضم قصائد لشعراء وشاعرات من السعودية ترجمها إلى الفرنسية الشاعر التونسي معز ماجد.. شارك شعراءَنا شعراءٌ من ثقافات مختلفة؛ من البرازيل، وفرنسا، ومالطا، ومصر، والكويت، ومن تونس طبعاً.

الجميل أحمد طابعجي، كان من أبطال الرحلة، قائدنا كان ودليلنا، وولي أمرنا في هذه المتاهة؛ أتعبناه وأخجلنا بصبره.. سفيرنا في تونس حضر الافتتاح مشكوراً، ثم دعانا على وجبة عشاء فخمة، وكانت ليلة لا تنسى. أنا وسعيد السريحي اختلينا بحمادي صمود، وأعدنا عالماً من الذكريات المثخنة بالحنين، كان حمودي محباً صامداً ولا يزال.

يحيى سبعي، مبدعنا السردي العجيب، وملحقنا هناك، كان أقرب ما يكون إلى أخطبوط، امتدت أياديه في كل اتجاه ليكون طريقنا مفروشاً باليسر.. حضر معنا، وكان خلف الترتيبات اللازمة، نظم لنا زيارة خاصة للمدينة الثقافية في تونس؛ كانت زيارة مذهلة لمدينة ثقافية متكاملة؛ فنون وآداب، موسيقى، وتشكيل، وسينما، وشعر وسرد وترجمة. كل شيء تقريباً؛ ما يشرح الخاطر أكثر أن المملكة كانت حاضرة في عدة زوايا؛ في مركز السينما مثلاً كان الجميع يشير إلى أحمد الملا، ومهرجان السينما السعودي، والتعاون مع المركز، وفي بيت الرواية، رقص قلبي أمام رفٍ خاص الرواية السعودية، عبده خال، والمحيميد، ويحيى امقاسم، ورجاء عالم وآخرون. لكن.. ماذا عن الشعر؟!

كان حضور شعرائنا يليق بالوطن، أحمد الملا كان متجلياً كالعادة؛ أشبهَ ما يكون بقصيدة نثر متنقلة بين الدروب، في أمسية (المقهى العالي) التقط بذكاء (لحظة العتبى) كما لا يفعل الآخرون. كان النص همسة توضيح، مرافعة شاعر قانونية عن لحظة تضيع بين اللحظات. عبدالله ثابت حضر أنيقاً هادئاً كما يفعل عادةً؛ القرية كما لاحظت باستمرار عنصر بنيوي متكرر في وعيه الشعري، لكن نصوصه مختصرة هادئة تدخل القلب دون مشقة.. نصوص هاشم الجحدلي على الجانب الآخر ضجيج وحركة وإيقاع، قصيدة الجحدلي قاربٌ في بحرٍ ثائر، تلعب بالجمهور والأنفاس، وكل ما فيها يضجُّ.

غسان الجنيدي وجد ضالته الإيقاعية في الشطرنج.. جلسة شطرنج تستدعي اثنين؛ منافسة بين جيشين، حين كان يلقي نصه كان ينظر باستمرار لزوجته شادية؛ ربما كانت خصمه في اللعبة، وفي هذه الثنائية تشكّل الإيقاع الداخلي، هذا رأيي النقدي، هذا ما لمسته.. لمستُ أيضاً أن غسان لاعب شطرنج فاشل؛ مثل كل الشعراء.. الشطرنج لعبة حرب؛ يسعى كل طرف لهزيمة الآخر، لإسقاط جنوده، وقتل خيوله، واحتلال قلاعه، وخلع وزيره، للقبض على ملكه.. هكذا تخاض المعارك في الشطرنج، الخنيزي لم يفعل ذلك.. في منتصف المعركة/القصيدة سلّم واستسلم، فرّغ جناحي جيشه، ودّجن فرسانه، لم يرفع راية بيضاء، لكي لا تتوقف المعركة، أراد من منافسته أن تهزمه، وقد فعلتْ.. شادية كانتْ خصمه العنيد وجيشه العتيد.

جزء مهم من قصيدة النثر يكمن في اقتناص اللحظة وشعرنتها بطريقة أو أخرى؛ حين يلتقط صالح زمانان اللاقط تشرئب له الأعناق، لأنه يستطيع أن ينثر نصاً مثل (لستُ على ما يرام).. وتعاملَ محمد الحرز مع (ما ليس له) فأخذنا إلى الأشياء في أيدي الآخرين، أما إبراهيم الحسين فقد اقتنص عالمَ الصدفة، ليجمعنا بالراحلين، بكى في منتصف الطريق وأبكانا.. تعتمد قصيدة النثر أيضاً على صنع كمين شعري عبر متابعة العادي برتابة وبناء أفق للتوقع، ثم تكون المفاجأة في قفلة الختام. روان طلال كانت مفاجأة المهرجان؛ كنتُ مع صبحي حديدي، المترجم والناقد الذي لا يعجبه أي شيء في هذا العالم.. إلا بمشقة، ولأنه كذلك؛ فقد اختار أن يصرّح لي في حديث خاص بأن روان من أهم اكتشافات المهرجان. لا أعتقد أنه أخبرها بذلك، ولا أعتقد أنه سيفعل. تبقى مسألة النظم، وهي تهمة موجهة عادة للنظّامين العموديين. لكني أعتقد أنها حينما توجد في قصيدة النثر تكون أشنع. الناظم العمودي يمكن أن ترقص على موسيقاه؛ أقول يمكن... أما ناظم النثر فماذا تفعل معه.. غير أن تبكي حظك العاثر ربما.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store