Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. عادل خميس الزهراني

تحولات ما بعد الحداثة بين ناقدين عربيين

A A
يعد إيهاب حسن، الناقد الأمريكي ذو الأصول المصرية، مرجعاً مهماً لتعريف ما بعد الحداثة، (وما بعد بعد الحداثة).. حيث كرس سنين طويلة لإنتاج عدد ضخم من الدراسات التي تتناول أعمالاً فنية وأدبية لفنانين وأدباء معاصرين، ليخرج فيما بعد بنظريته الخاصة بمفهوم ما بعد الحداثة.. يرى حسن -باختصار شديد- أن ما بعد الحداثة تشير إلى ظاهرة كونية تفاعلية تقوم فيها القبلية-والإمبريالية، الخرافة والتكنولوجيا، الهوامش والمراكز بممارسة طاقاتها الصراعية غالباً على الإنترنت.. وهو يفرق بينها وبين «ما بعد الحداثوية» إذ يعتبر هذه الأخيرة ظاهرة ثقافية تشير إلى المجتمعات المرتاحة اقتصادياً، المجتمعات الاستهلاكية، المتطورة تكنولوجياً، والمحركة بالإعلام.

ناقد عربي آخر -عربي الأصل والمنشأ- كان أكثر قلقاً تجاه تغيرات العصر الحديث، وما تحدثه من فوضى في عالم الكتابة الأدبية والنقدية؛ ذلك هو مصطفى ناصف، الذي يشن هجوماً حاداً على قيم ما بعد الحداثة في كتابه بعد الحداثة: صوت وصدى.. ناصف لا يخفي قلقه من مآلات الثقافة في زمن ما بعد الحداثة التي تعطي الموضوعية -حسب رأيه- أهميتها، لكنها في الوقت ذاته تسعى لترسيخ مفاهيم الحرية والتسامح والمرونة.. المشكلة التي يحاول ناصف مناقشتها هي أن الإنسانيات كمجال يستعصي على الموضوعية المطلقة، مهما حاول الأكاديميون عبثاً تخفيف قبضة الذاتية عليه، وهو ما يؤثر على الجانب الموضوعي.

لكن ما بعد الحداثة لا ترى ضيراً في هذا كله، فهي تقبله بصفته مآلاً حتمياً للصيرورة التاريخية: «لقد استطاعت الموضوعية أن تحقق أغراضاً جليلة، ويستطيع بعض الريب في نقاء هذه الموضوعية أن يحقق أغراضاَ ثانية».. هكذا يلمح ناصف ساخراً، ويبدو أنه لا يتفق أبداً مع هذه الرؤية، التي تميع الحدود وتبتذل الثقافة.. فهو يتهم ما بعد الحداثة بالفوضى، والتشتت، والانتهاك البحت للقيم ويعتبرها عدواً واضحاً للقيم والأعراف.. يأتي هذا القلق من زاوية رؤيته لمرحلة ما بعد الحداثة، التي يراها بحثاً «في تأثير تغيرات الإنتاج والاستهلاك، هذه التغيرات القوية المتلاحقة. ما موقف الفرد العادي منها.. إلى أي مدى وعلى أي نحو تجور على حياته الخاصة أو تعترف بها».

من هنا ينظر ناصف إلى أن ما بعد الحداثة تفتح الأفق أمام الكتابة أكثر مما ينبغي، لتصبح أقرب ما يكون إلى ثرثرة غير هادفة، تكرس سلطة الكاتب، الذي يستطيع أن يكتب فيما يشاء متى ما يشاء: «الكاتب الآن ذو طبيعة لعوب، عاشق لإقامة احتفاليات صغيرة، يرى من حقه أن يلفت الآخرين إليها».

قهوة اليوم، وجبة الغداء، قيادة السيارة، مقابلة الأصدقاء... الخ. كلها موضوعات يطرحها علينا كاتب ما بعد الحداثة، دون أن يكون عليه واجب، أو لنا حق، تنقيح وتجويد ما يكتب، «لأنه يكتب كل شهر إن كان بعيداً، ويكتب كل أسبوع، وقد يكتب كل يوم».. يمكن أن أضيف (وقد يكتب كل ساعة، ودقيقة...).

يضيف ناصف: «وفي ظل هذه السلطة الجديدة راح الكاتب يبسط (الكلام) علينا، وراح يحكي ما يهمه وما لا يهمه أيضاً.. راح يلتقط كل كلام هامشي، وراح يفرض الهامش علينا». كتاب ناصف مليء بالتحليل للظاهرة من عدة زوايا أدبية وثقافية، يحاول فيها تشخيص المشكلة التي يطرحها الظرف التاريخ/ثقافي، المتمثل في مرحلة ما بعد الحداثة.. ورغم أن التوتر يسيطر على لغته وتفكيره إلا أن آراءه تلامس أبعاداً مهمة، يمكن النظر من خلالها إلى مآلات الكتابة الأدبية في عصر التكنولوجيا.. فالشتات، والمرونة، والاستهلاك، والتشظي، والحرية، والثرثرة والفوضى، كلها صفات من الصعب إنكارها في عالم الثقافة اليوم.. يعتمد الأمر على النسبة فقط، أو على مقدار ما يتحلى به الباحث المراقب من قدرة على التفاؤل أو التشاؤم.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store