Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. عادل خميس الزهراني

تقاطعات السينما والفلسفة: صرامة السؤال وفتنة الصورة

A A
قاد التفاعل الخلاق بين الفلسفة والسينما الفيلسوف الفرنسي المهم جيل دولوز لأخذ السينما بجدية، توّجها بكتابه المرجعي ذي الجزئين: (سينما: الصورة - الحركة)، و(سينما: الصورة - الزمن).

يعدّ دولوز ظهورَ السينما حدثاً علمياً مهماً، ومرحلة من مراحل تطور مفهوم الحركة العلمي: العلاقة بين المدار والزمن اللازم لقطعه عند كيبلر، مسافة سقوط الأجسام وعلاقتها بزمن السقوط عن غاليلي، نقطة ديكارت على الخط المستقيم المتحرك، الحساب المتنامي الصغر عند نيوتن ولايبنز، «في كل مكان، كان التعاقب الآلي للحظات يحل محل النظام الجدلي للوضعيات»، و»يبدو أن السينما هي فعلاً المولود الأخير لهذه السلالة».

من هنا يرى دولوز أن السينمائيين يؤدون دوراً لا يقل أهمية عن دور العباقرة.. يقول: «لقد بدا لنا أن كبار كتّاب السينما يمكن مقارنتهم لا بالرسامين والمعماريين والموسيقيين فحسب، بل بالمفكرين أيضاً.. ذلك أنهم يفكرون من خلال الصورة/الحركة والصورة/الزمن بدل أن يسوّقوا المفاهيم».

يركز دولوز على هذا الدور التنويري النقدي للسينما، إذ يراها «ومن دون أن تكتفي بوعي سلبي نقدي أو ساخر، انخرطت في أعلى درجات التفكير، ولم تكفّ عن تعميقه وتطويره».. وبذلك تكون «السينما بحد ذاتها ممارسة جديدة للصور والعلامات التي يترتب على الفلسفة أن تصوغ لها النظرية كممارسة تصورية».

في مقدمة كتابهما المهم (السينما والفلسفة) يتساءل داميان وكوكس ومايكل ليفين، إن كان في وسع الأفلام أن تصبح أدوات للاستقصاء الفلسفي؟ ويتطرق المؤلفان إلى العوامل التي تجعل من السينما ظاهرةً ثقافية مؤثرة على نطاق عالمي واسع جداً؛ فهناك في البدء القبول الجماهيري العظيم لهذا الفن غير النخبوي إن صح التعبير.. تنتمي السينما للناس، للشعوب، ومن هنا تكون أعداد المتابعين للأفلام، والمهتمين بها، وبمناقشة قضاياها أكبر من أعداد قراء الكتب، كما أن لدى السينما دوماً القدرة على تجاوز الحدود والحواجز بين أطياف المجتمع وطبقاته الاجتماعية والاقتصادية؛ فجمهور السينما يأتي من كل مكان دون اعتبار للخلفية الاجتماعية، بينما تجذب بعض الفنون -مثل الأوبرا- اهتمام شرائح معينة دون أخرى.

هذا يعود لأسباب عدة، لعل أهمها أن عروض الأفلام أقل كلفة من غيرها، بحيث يمكن حتى لمحدودي الدخل، والفقراء كذلك، متابعتها.. غير أن هذه الشهرة تعود بطبيعة الحال لمادتها، التي تعتمد على الحكايات في تحليل القضايا الأخلاقية وإثارة التساؤلات العامة والفلسفية، بطريقة جذابة ومشوقة.. وينقل الكاتبان عن والتر بينجامين رأيه في «قدرة السينما على دعم الحرية السياسية والاجتماعية والفكر الإبداعي».

في المقابل هناك مخاوف أخلاقية من السينما في أن تتلاعب بالناس، وتحدد توجهاتهم عن طريق الهيمنة والدعاية المكثفة، وأن تكون ضمن البروباقندا المؤدلجة، وتبث الاضطراب في الناس كذلك.

وسط هذه المفارقة بين دعم السينما للحرية وتقييدها بالهيمنة على عقول المشاهدين، تقدم السينما مزيجاً هائلاً من القصص والتجارب ووجهات النظر والفرضيات الفلسفية.

يشدد مؤلفا الكتاب على أهمية الرغبات والمشاعر -أحياناً أكثر من المنطق والدليل- في توجيه مسألة التصديق، خصوصاً في المظاهر التي لا تقوم على التجريب والرؤية بالعين، ولذلك يفرض هذا المكون الوجداني نفسه في الحديث عن تشكيل الفكر وتوجيهه: «تستطيع بعض الأفلام مع بعض الأشخاص في بعض الأحيان توليد نوع من التيقُّظ والتبصُّر الوجداني الذي قد يزعزع ولاءات وافتراضات سابقة حتى في وقت ظن فيه أصحابها أنها قائمة على أسس فكرية وعقلانية».

وأخيراً يذكّرنا الكتاب بأن «الأسئلة الأخلاقية»، والقضايا التي تتناولها الفلسفة، وتمثّل مباحثها المختلفة، توجد بدايةً في الحياة العادية، التي تقتنص السينما قصصها منها. إن هذه القصص هي قصصنا وتجاربنا الخاصة، تطرحها السينما، وتحاكيها، وتحاورها بطريقتها الخاصة، وهو ما يعني أن الحياة هي الصلة بين الفعل السينمائي والفلسفي.

وكما هو الأدب فإن «السينما وسيط يوظف أساليب متعددة، ليست جميعها من صنعها، كي تُجسِّد القضايا الفلسفية كما تُثار، أو كما قد تُثار، في الحياة وفي الخيال.. بل إن قدرة السينما على تصوير الحياة كما تبدو في الحقيقية وفي الخيال -والحياة دائمًا ما تكون خيالية بدرجة ما- هي ما تشكل الصلة الجذرية بين الفلسفة والسينما».

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store