Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محمد بشير كردي

بعض الرثاء في نبل العطاء

A A
وحلَّ اليوم الخامس عشر من يوليو، لتعود مرارة فقدي أستاذي ومعلِّمي وموجِّهي الذي له بعد الله الفضل في ما بلغته من خير ونجاح. شاءت إرادة الله -ولا رادَّ لمشيئته - أن يرحل عن دنيانا الفانية إلى دار البقاء مخلِّفا رصيدًا ثمينًا من محبِين مقدِّرين له ما قدّمه لأمَّته ووطنه لنشر العلم والمعرفة في مدن المملكة وقراها وأريافها، بدءًا من المدارس والمعاهد والكليَّات التي أنهت زمن الكتاتيب، ثمَّ بالتعاقد مع علماء وأساتذة من مصر وبلدان عربيَّة لتخريج جيل من الشباب السعودي المثقَّف.. ابتعث من بينهم العديد إلى أرقى جامعات العالم، ليعودوا مزوِّدين بالعلم والمعرفة، وسرعان ما تحوَّلت المملكة بفضل ذلك إلى واحة يقصدها طلَّاب العلم والعلماء.

وتقديرًا لدوره الرائد في مسار مملكتنا، اختارته القيادة الرشيدة سفيرًا لها في اليابان والصين الوطنية والسويد وإسبانيا والبرتغال وآيسلندا والمملكة المتَّحدة لسنوات تباعًا لتوثيق علاقات الصداقة والتعاون في شتَّى المجالات... مخلِّفًا بعد تقاعده بصمات مشرِّفة ونهجًا يتابع مساره الجيل الجديد لرفع مكانة المملكة عاليًا.

في مطلع ثلاثينيَّات القرن الماضي العجاف، فتح عينيه على الحياة في الأحساء، شرق المملكة التي انتشر فيها الجوع مع المرض والوباء، ووعورة سبل التنقُّل ما بين شرق المملكة وغربها، حيث العاصمة المقدَّسة مكَّة المكرمة.. وتشاء والدته أداء فريضة الحج غير عالمة أو آبهة بواقع حال البلاد، ولتحقيق أمنيَّتها، رافقها سيرا على الأقدام قاطعًا مئات الكيلومترات باتَّجاه مَّكة المكَّرمة.. ويشاء الله أن يختارها إلى جواره الكريم، وهما بعد على مشارف مكَّة المكرَّمة، ليواريها الثرى، ويدخل بيت الله الحرام معتمرًا.. ومن ثمَّ قصد دار البعثات السعوديَّة طالبًا التأهُّل للدراسة في جامعة القاهرة، التي يبتعث إليها متخرِّجو دار البعثات.. تمَّ له ذلك، وتخرَّج... ليحقِّق تفوّقًا مشهودًا مكَّنه من إقامة علاقات تعارف وصداقة مع كبار الأساتذة والأدباء ورجال السياسة، ليعود إلى الرياض ويتسلَّم مناصب عدَّة، منها مدير جامعة الملك سعود، فوزير العمل والشؤون الاجتماعيَّة والأمانة العامة لمجلس الوزراء وسفيرًا لسنوات طوال، كان آخرها سفيرًا لخادم الحرمين الشريفين لدى المملكة المتَّحدة، ومعتمدًا لدى جمهوريَّة آيرلندا، وقبلها في اليابان والصين الوطنيَّة والسويد والنرويج والدنمارك.

من اليوم الحادي عشر من شهر يونيه عام 1964، اليوم الأوَّل للعمل تحت رعاية معاليه في سفارة المملكة في طوكيو، شملني -يرحمه الله- برعاية مميَّزة، ومن ثمَّ في محطَّاته الدبلوماسيَّة وآخرها إسبانيا والبرتغال، آخذُا بيدي وأنا على أولى مراتب العمل الدبلوماسي لصعود السلم الوظيفي ووصولي قمَّته سفيرًا وقنصلًا عامًّا في الجنوب الإسباني مقرَّبًا من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز- يرحمه الله- ومن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، أمدَّ الله في عمره.. وموضع ثقة أصحاب السمِّو الأمراء والمعالي الوزراء وكبار الشخصيَّات السياسيَّة والأدبيَّة في المملكةً مما أهَّلني لمنصب سفير لدى إمبراطوريَّة اليابان.. وعلى مدار تلك السنوات من العمر، كنت من المقرَّبين لمعاليه حتَّى بعد تقاعده، وتمضيته في ماربيَّا مئة وثمانين يومًا كلَّ عام.. وعلى مدى إقامته، كنَّا نجتمع يوميًّا، ويضمَّني مع قاصديه من كبار الشخصيَّات السياسيَّة والأدبيَّة والإداريَّة، وزوَّاره إلى مائدة الغداء.. أبقاني -رحمه الله- حتَّى اليوم الأخير من حياته على اتِّصال بعد عودته إلى لندن.

نقلت لي كريمته السيِّدة نورا، خبر وفاته، فتوجَّهت إلى لندن، لوداعه في مقبرة برومبتون، قرب حيِّ كيسينغتون وتشيلسي.. هناك بقلب مفعم بالحزن، وقفت على مدى ثلاثة أيَّام إلى جانب أسرته لتقبُّل تعازي الألوف.. وعدت إلى مدريد، واثقًا أنَّ كريمته السيِّدة نورا التي ورثت عن والدها معالي الشيخ ناصر الحمد المنقور -تغمَّده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جنانه - الكثير من مكارم الأخلاق، وستتابع مسيرة الخير والبِّر والعطاء.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store