Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

هاجس المكان في «الوسمية» للمشري (1)

هاجس المكان في «الوسمية» للمشري (1)

سديم

A A
إنّ ظهور المكان في الخطاب الروائي لا يمكن تحديده وفق درجة محدّدة، أو من خلال مستوى قائم بذاته، فقد يكون هناك أمكنة روائية تحمل طابع المركزية، وأخرى ثانوية، وقد يكون هناك -في المقابل- أمكنة مفتوحة، وأخرى منغلقة تضطلع بدور أساس في تشكيل أبنية المكان، وتنهض -في الوقت ذاته- بدلالات رمزية في ضوء ما تحمله من أبعاد نفسية، واجتماعية، واقتصادية.

ولذلك؛ لوحظ أنّ المكان، والمكان وحده، له حضوره الكثيف في رواية «الوسمية» لعبدالعزيز مشري (1955- 2000م) على طول الخطاب السردي، حتى أنّه أصبح هاجسًا للراوي بتتبع أوصافه، والوقوف على بعض تفاصيله، وما يتعلق به من أثر وتأثير على الشخصيات، بتحريك مشاعرها وبث روح الانتماء إليه، كما لوحظ -أيضًا- أنّ الرواية تتميّز بكثرة الأماكن، سواء على مستوى الانفتاح أو الانغلاق، فضلاً عن اختلاف خصائصها، وسماتها، وتنوّع أوصافها، وإن بدت القرية، كمكان هي البنية الكبرى لجماع تلك الأمكنة؛ نظرًا لجريان جميع الأحداث الروائية في إطارها، يقابلها مجموعة من الأمكنة الداخلة في جوفها، تمثّل، هي الأخرى اللبنات الصغرى؛ كالبيوت، والمساجد، والساحات، والمزارع، والآبار.

تتنوّع الأمكنة المفتوحة في «الوسمية» بتنوع خصائصها وسماتها، وإن كان المكان/ القرية هي المحضن الأكبر لجماع تلك الأمكنة، ومن جوفها تتوزع بقية الأمكنة المفتوحة؛ لتؤدّي دورها في تشكيل الخطاب السّردي، ولذلك تشكل القرية -والقرية وحدها- الإطار العام لأحداث الرواية؛ بل إنّها البنية الكبرى التي تضطلع بمهمّة المقاربة ما بين وقائع الرواية، وما يتعلق بها من أحداث وشخوص، وما يرتبط بها من أبعاد اجتماعية ونفسية؛ فضلاً عمّا تشهده من أزمنة متعددة تحمل في جوفها العديد من التحوّلات والصراعات، حتى غدت القرية -والقرية وحدها- بوصفها مكانًا معادلاً موضوعيًّا للكثير من القرى في جنوب السعودية خاصة في فترة ما قبل التحولات الكبرى، وانعكاسًا لمرحلة اجتماعية وحضارية واقتصادية عاشها أفردها بكل ما تضمنه من تجليّات، وما تحمله من صراعات.

لقد استطاع مشري توظيف القرية؛ لتكون مكانًا جامعًا لكل الأحداث الروائية، بدءًا من العنوان الذي جاء من عمق البيئة الزراعية -كما يقول الباحث حسن الحازمي- التي تصورها الرواية، وانتهاءً بالأحداث التي كانت مرتبطة بالمكان الروائي، بل متأثرة بها، وهو ما أدّى إلى تعزيز حركة الشخصيات في جوف المكان/ القرية لتمرير العديد من العادات والتقاليد والأعراف السائدة، بحيث غدت القرية مكانًا إطاريًّا مفتوحًا تبسط أمام المتلقي عالمها بما فيه من حياة مبعثها الحميمية، والانتماء، والتعاون، والأُلفة، والمحبة، سواء في بيوتها ومجالسها، أو في وديانها وزروعها وطرقاتها وسيوحها، أو في مرتفعاتها ومنخفضاتها، أو حتى في سطوح منازلها.

لقد حاول عبدالعزيز مشري جعل المكان/ القرية بؤرة مركزية تكتسب بُعدًا اجتماعيًّا، باشتمالها على الوصف الواسع، والتتبُّع الواعي لحيثيات المكان بتفاصيله، باعتباره أداة للتعبير عن موقف الشخصيات بشرطها التأريخي ووعي الطبقة المجتمعيّة فيها، وإن تعدّدت عوالم الشخصيات وتوزّعت بآمالها ورغباتها وهوائها وطموحاتها؛ فضلاً عمّا يعتورها من صراعات لا تكاد تصل إلى الغور النفسي أو الاجتماعي، وهذا ما يكاد يلاحظ -مثلاً- في وصف الراوي لحالة من حالات الاجتماع، خاصة بعد أنْ أُدِّيت صلاة الجمعة: «لم يغب أحد أسفل القرية ولا من أعلاها.. جماعة، جماعة، وجماعة واحدة كبيرة.. الكلمة واحدة، والرأي واحد، والمشورة واحدة: في الطيب والبطال.. في مراح العروس، أو حضور عزاء ميت، عندما تنوب النائبة، أو يحدث اعتداء من القرى المجاورة، أو من القبائل البعيدة.. الجماعة كلها واحدة!». وهذا ما يكاد ينسحب -أيضًا- في قول الراوي حينما بدأت بواكر الفرح تكسو المكان لحظة الزواج، وما يتخلله من أعراف حتى بات المكان سلسلة من الحركة بوفود أهالي القرية أفرادًا وجماعاتٍ: «جاءت الجماعة من البيوت المتناثرة في القرية.. حملوا عصيهم، ومشاعيبهم، واحتزموا بالجنابي والخناجر، وتوافدوا واحدًا بعد الآخر».

وللحديث تتمة...

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store