Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. سهيلة زين العابدين حماد

الفرق بين التشريع الإلهي.. والتراث الفقهي البشري

A A
التشريع الإلهي، مُقدَّس ومُنزَّل من عند الله، ومُنزَّه عن الخطأ، وواجب الالتزام به، ويُؤثَم مَن خالفه، أمَّا التراث الفقهي فهو استنباطات العلماء «فقهاء وأصوليين ‏ومفسرين» ‏لنصوص قرآنية وأحاديث نبوية الصحيح منها والضعيف، والشاذ والموضوع، أو تراث يُؤخَذ منه ‏ويُترك، فهو اجتهادات بشرية في تفسير ما أنزله الله، وفيما روي من مرويات حديثية على اختلافها، واستنباط الأحكام الفقهية منها، وهي قابلة للصواب والخطأ، واجتهادات المفسرين والفقهاء تخضع للموروثات الفكرية والثقافية لصاحبها.

كثيرون هم الذين يخلطون بين التشريع الإلهي والتراث الفقهي البشري، فيُنزلون التراث الفقهي منزلة التشريع الإلهي، ويقُدِّسونه، وإذا بيّن شخص ما مخالفة حكم فقهي لما جاء في القرآن الكريم، وأنّ ما استند عليه من أحاديث هي ضعيفة أو موضوعة، أو شاذة، أو مفردة، يُتَّهم بالجهل، ويُقلَّل من شأنه: مَن أنتَ حتى تنتقد مُفسِّرًا، أو فقيهًا، وقد يصل الأمر إلى التشكيك في عقيدته وتكفيره!.

وهذا التوجه بات يُمثِّل كثير من الخطابات الدينية، المُقدِّسَة لكتب التراث وكُتَّابه وفتاويهم؛ إذ تمتلئ بفتاوى التكفير ورفض الآخر، وهدر الدماء، وتضييق دوائر الحلال، وامتهان المرأة، وانتقاص أهليتها، مع الاستدلال بأحاديث موضوعة وضعيفة وشاذة ومفردة، وتقديس بعض العلماء وتنزيههم عن الخطأ، وهذه الكتب تُدرَّس في مدارس وجامعات بعض الدول العربية والإسلامية، ولكن عندما طُبِّق ما فيها على أرض الواقع، ظهرت خطورة محتوياتها، فلقد رسخ في الضمير الديني للبعض؛ قداسة التراث ورجاله بكل ما فيه، رغم مناقضة بعضه للقرآن الكريم ومقاصد الشريعة، واحتواء بعضه الآخر على أحاديث ضعيفة وموضوعة، والاستناد عليها في فتاويهم التكفيرية، ونبذ الآخر، لدرجة أن بعض مما ينتمون للمؤسسات الدينية في العالم العربي عالجوا قضايا العصر بفكر وروح عصور خلت، مرددين أقوال وفتاوى محفوظة عن ظهر قلب لعلماء وفقهاء عاشوا من قبل أكثر من ألف عام، دون التمعُّن في أبعادها، والتدقيق في صحة الأحاديث التي بُنيْت عليها، مع إدراكهم بأن اختلاف الفتوى يأتي باختلاف الزمان والمكان، بل نجدهم يُصِّرون على تضمنيها بنصوصها في بعض المناهج الدراسية، ممّا أدّى إلى تشويه صورة الإسلام، كدين عنصري يُميِّز بين المسلم وغير المسلم، والسنِّي وغير السنِّي، والرجل والمرأة، دين قائم على قتال من لا يؤدي فريضة من الفرائض، وإباحة هدم الكنائس حتى لو أُعطي أهلها الأمان عند الفتح الإسلامي، ووجوب استمرار القتال حتى يشهد الجميع أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمدًا رسول الله، واعتبروا أنّ نظام الحكم في الإسلام هو نظام الخلافة، مستندين على حديث ضعيف، ومعتمدين حديث الفرقة الناجية، رغم ضعفه، أمّا ما يتعلّق بالمرأة، فإنّ مجرد قولها لزوجها: «ما رأيت منك خيرًا قط» تدخل النار، وأصبح النساء أكثر حطب جهنّم لكفرهن العشير، ونجدهم سلبوا المرأة أهليتها باعتبارها ناقصة عقل ودين، مستندين على حديث ضعيف، والزوجة أمة مملوكة لزوجها في حال صحتها وعافيتها، ودار مستأجرة في حال مرضها لا يجب على زوجها علاجها، لأنّه لا يستمتع بها أثناء مرضها، استنادًا على فتوى للأئمة الأربعة دون استنادهم على نص قرآني، أو حديث نبوي، والأكثر من هذا قول بعض المذاهب بعدم وجوب شراء الزوج كفن زوجته إن ماتت، ومع هذا لا يُسمح لأحد انتقاد هذه الفتاوى، والأحاديث الضعيفة التي تتضمنها كتب الصحاح، رغم مناقضة بعضها للقرآن، ويُكفَّر مَن يقوم بهذا الانتقاد، لإخراس أي فكر يسعى للإصلاح، وقد ترتب على ذلك نفور بعض الشباب من الإسلام، وإلحادهم، واعتناق بعضٌ آخر لهذا الفكر المتشدّد، فتمّ تجنيدهم في عمليات إرهابية، فتحوّل الصراع من جدال فكري، إلى مواجهات مسلحة.

وهكذا نجد كيف تم تصوير الإسلام بأنّه دين عنف وإرهاب، لا يحترم معتقدات الآخرين، ولازال هناك في العالم العربي والإسلامي بعض المؤسسات الدينية تتمسك بهذا الفكر، وتتَّهم بالجهل والكفر والعمالة للغرب، من يُبيِّن ضعف بعض أحاديث الصحيحيْن، وكُتب التراث التي بها فتاوى تكفيرية، وتغلب عليها الموروثات الفكرية والثقافية المتمثلة في عادات وتقاليد منافية للإسلام، وتنسبها للإسلام بأحاديث ضعيفة وموضوعة.

وأود أن أختم مقالي بما جاء في حديث ولي العهد لمجلة أتلانتيك الأمريكية الذي نُشر في 3/3/2022م، بإقدامه على تصويب الخطاب الإسلامي بالعودة إلى الإسلام النقي الذي يُمثِّله العهديْن النبوي والراشدي خير تمثيل، وذلك في قوله: «نحن نرجع إلى تعاليم الإسلام الحقيقية، التي عاش بها الرسول عليه الصلاة والسلام، والخلفاء الأربعة الراشدون، حيث كانت مجتمعاتهم منفتحة ومسالمة، وكان عندهم مسيحيون ويهود يعيشون في تلك المجتمعات، وأرشدتنا هذه التعاليم أن نحترم جميع الثقافات والديانات، ونحن راجعون إلى الجذور، إلى الشيء الحقيقي.

إنّ ما حدث هو أنّ المتطرفين اختطفوا الدين الإسلامي وحرَّفوه، بحسب مصالحهم؛ حيث إنّهم يحاولون جعل الناس يرون الإسلام على طريقتهم، والمشكلة هي انعدام وجود مَن يُجادلهم ويُحاربهم بجدية، وبذلك سنحت لهم الفرصة لنشر هذه الآراء المتطرفة المؤدية إلى تشكيل أكثر جماعات الإرهاب تطرفًا، في كلٍّ من العالَمين السني والشيعي».

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store