Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د.ساري بن محمد الزهراني

هاجس المكان في «الوسمية» للمشري (3-3)

سديم

A A
لوحظ أنّ عبدالعزيز مشري في رواية «الوسمية» قد جعل من المكان/ طريق السيارات نقطة تحول جوهرية في حياة أهالي القرية، باعتباره سبيلاً نحو الانفتاح إلى عوالم المجتمع الأكبر، بما يحمله من دلالة رمزية، بحيث «تتجسد رمزية الطريق في البحث عن الاتصال بالعالم الخارجي -حسب تعبير الناقد حسن النعمي- بمعنى أنَّ القرية هي التي تسعى للخروج من عزلتها دون أن تعي التضحيات التي ستدفعها ثمنًا لهذا الاتصال.

ولا غرو أنَّ يعمد الكاتب الروائي إلى رهن الفصل الثالث عشر كاملاً للمكان/ (الخط)، مجسِّدًا مقدار الجهود التي بُذلت في سبيل دخول السيارة إلى القرية كما لوحظ في قوله: «كل واحد بمسحاة، أو عتلة، أو منقبة، أو زنبيل، أو منشل.. أيادٍ أخرى من الخارج لن تفتح الخط للسيارة، مسافته أربعة كيلومترات.. مرات في الجبل.. ومرات في طرق مزروعة».

والملاحظ في ذلك المقتبس مدى الانقسام حول فتح الخط؛ ولكنَّه انقسام سرعان ما يذوب أمام رغبة القرية للجنوح نحو باحات أوسع، وفضاءات أكبر، وتحوُّلات ستطال جميع أفراد القرية، ولذلك لم تكن تلك الرغبة الملحَّة بمعزل عن بعض الصراعات حال ربطها بالأراضي الزراعية، وما تجود به من أقوات معيشية تُشكّل عصب الحياة للقرية.

ويأتي حضور السوق بوصفه مكانًا مفتوحًا يعكس الوجه العام لحياة الناس؛ ليؤدِّي دوره الإعلامي كأشبه ما يكون بوكالة أنباء محليَّة، إضافة إلى دوره التبضعي، حيث يلتقي فيه الناس لتبادل الأخبار، والبيع والشراء محدثًا بذلك حركة جامعة تتجانس مع إيقاع الحياة وحاجات الناس بيعًا وشراءً، «صدر الهابطون إلى السوق، يوم الخميس، بحميرهم المحمّلة بالتمر، والنبق، والشار، والريحان، والكادي، والسكر، والشاهي، والبن، والجنزبيل، وحب الهيل، والدخان الأخضر، وأشياء أخرى. باعوا العنب، والبرشومي، والأنقاص، والقضب في سوق الخميس وسط القرى المجاورة، واشتروا بأثمانها حاجاتهم».

وتحضر مجموعة من الأمكنة الأخرى كـ»الساحات»، حينما عمد الراوي إلى توظيفها بحسب ما ترمز إليه؛ وذلك وفقًا لتنوُّع دلالاتها في ثنايا الخطاب السردي، ومن ذلك -مثلاً- ساحة المسجد باعتبارها مكانًا دالاً على الانفتاح، ومثوى للاجتماعات ما بين أفراد القرية، فتارة بوصفها مكانًا للمشورة وتبادل الآراء، وما ينتج عنها من قرارات، وتارة ثانية باعتبارها منبرًا للدعاء واللجوء إلى الله حالما تصيب القرية أذية ما، أو يداهمها كرب يمسُّ حياتها المعيشية، وتارة كمنصة عامَّة للدعوة إلى عرس سيقام، وتارة بصفتها مرتعًا للأنس ولعب الأطفال وإقامة العرضة.

في حين كان للبئر حضورها في ثنايا الخطاب الروائي وفق أربع دلالات:

1- رمز دال على الحياة، كما يلاحظ في قول الراوي وهو يصف استقاء نساء القرية من «أم الحمام»: «جلسن على طرفي المجرى، يغترفن الماء بعلب السمن الفارغة، يملأن القرب بالماء الدافئ: اثنتين.. اثنتين، واحدة تمسك فم القربة، واحدة تغترف وتصب».

2- وسيلة إخبار وأخبار، وتبادل المستور من القول خاصة عند النساء: «دارت الحكاية بين لسان ولسان، بين تذمر وخوف، وعتاب وغير عتاب».

3- رمز يشي بجهل أهالي القرية بكيفية التعاطي مع الآلات الحديثة =الماطور لجلب الماء، ومؤشر يوحي بحالة الانقطاع ما بين المجتمع القروي وما يستجد من أدوات مستحدثة. «امتلأ بلعوم البئر بالدخان، حتى غاب الرجل عن البصر»، «هزوا الحبل هزات، فلم يجب الرجل من أسفل البئر. كان الدخان مثل الضباب يندفع من أسفل»، «الرجل طاح.. وينكم؟ الرجل مات.. الحقوا.. وينكم»؟!

4- نافذة للهروب، وسبيل نحو تغطية العيب، ودفن المحظور وطمر السوءة، «باتت عنده هذيك الليلة، وأصبح الخميس.. عند أذان الديك.. خرجت من عنده.. وراحت عند بير بعيدة.. ورمت نفسها».

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store