Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د.ساري بن محمد الزهراني

النص والخاصية النوعية في المقامة البغدادية

سديم

A A
يحمل نص «المقامة البغدادية» لبديع الزمان الهمذاني، أبعادًا إيحائية، ودلالات متعددة، وخصائص فنية وجمالية؛ بدءًا من مبدع النص من منظور اجتماعي، وثقافي، وحضاري، ونفسي، مرورًا بالخصائص النصية، والتفاعل النصي، والبنية النصية، وصولاً إلى قناة الاتصال؛ فالمتلقي وإستراتيجية القراءة، ثم إستراتيجية الاتصال، وأخيرًا الارتداد العكسي.

من هذا المنطلق؛ سأحاول في هذه المقالة وما بعدها الوقوف عند ما يطلق عليه «النص والخاصية النوعية»، ونعني بالنص -كما يشير إلى ذلك الناقد الكبير الأستاذ الدكتور مراد مبروك-؛ كونه نصًّا تعدديًّا قادرًا على التوجيهات النصية للقارئ، بحيث يتيح مساحة حرة لوجهات نظر متعددة، الأمر الذي يساعد القارئ على إنتاج المعنى، بالاعتماد على نقاط الإبهام التي يملؤها المتلقي.

ومن الملاحظ أنّ المقامة البغدادية، وفق ذلك المفهوم، تعد نصًّا متجددًا متعدّد القراءة؛ وهذا ما يمكن تلمّسه -مثلاً- في مطلعها: «اشْتَهَيْتُ الأزَاذَ، وأَنَا بِبَغْدَاذَ، وَلَيِسَ مَعْي عَقْدٌ عَلى نَقْدٍ، فَخَرْجْتُ أَنْتَهِزُ مَحَالَّهُ حتَّى أَحَلَّنِي الكَرْخَ، فَإِذَا أَنَا بِسَوادِيٍّ يَسُوقُ بِالجَهْدِ حِمِارَهُ».

ففي المقطع السابق يلاحظ وجود الكثير من الخصائص النصية قد تحقّقت، سواءً من حيث الإيحاء والتجديد وإنتاج المعنى، أو من حيث ملء الفراغات التي يقوم المتلقي بملئها، وفقًا لوجهات النظر المتعددة حال قراءة النص، فعبارة «وَلَيِسَ مَعْي عَقْدٌ عَلى نَقْدٍ»، وكذا «بسَوادِيٍّ يَسُوقُ بِالجَهْدِ حِمِارَهُ» في مقابل «الكرخ»، تكاد تقدّم للمتلقي صورة من صور صراع الطبقات في ظلّ ما تعرضه في محالها من أشهى المأكولات، على اعتبار أنّها دلالة موحية تشي بحالة رامزة بتعددية مستويات المجتمع الواحد وانقسامه، حينما جمع ما بين دلالة الفقر الذي تعيشه مجموعة من أفراده، في مقابل مجموعة أخرى ترفل في أثوب الثراء وأطايب المأكولات.

ومع ما في تلك العبارات من دلالات موحية؛ إلاّ أنّ عبارة «أنْتَهزُ»، تشي بغواية نفسية من طرف عيسى بن هشام، وهي أولى المشيرات الصّادمة لوعي المتلقي، كون الدلالة التي توحي بها عبارة الانتهاز تكاد تقدّم للمتلقي صورة الباحث عن تدبير «حيلة ما»، في مقابل البحث عن «ضحية ما»!!

وبهذا؛ فإنّ المنظور العام الذي يكشفه النص لا يقوم على صراع ثنائي الجانب ما بين «محتال وساذج»؛ ولكنّه صراع مجتمع ماثل بما يحمله من تناقض في سلوكه، وقيمه، وواقع متشكّل؛ ولكن النص لم يحسمه بعد.

ومن هنا؛ فإنّ بؤر الصّراع لما تزل حية مثالة في تلك الثنائية؛ لأنّ حضور تلك الثنائية في بؤرة النص شرط من شروط الصراع، وبؤرة شاخصة وقارّة من بؤره.

فإذا كانت المقامة تعدّ جزءًا من التراث العربي السردي؛ فإنّها، في المقابل تقوم على مجموعة من المعطيات الاجتماعية، والثقافية، والسياسية بحيث تشكّل في جملتها «بؤرة» صالحة للدلالة على ما وصل إليه العصر العباسي من انقسام في الواقع المعاش، خاصة في منتصف القرن الرابع الهجري، وبهذا يتّضح أنّ الصورة التي تقدّمها المقامة للبطل المحتال، والشخصية السّاذجة تكاد تعرض أنموذجًا حيًّا لحال ذلك العصر بكل تجلياته ومفارقاته، في مقابل صورة واصفة للعالم المتخيل، وهذا ما يجعل من النص منفتحًا على دلالات متعددة. يتبع،،،

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store