Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أ.د. أحمد بن داود المزجاجي

تواضع الزعماء

A A
في جلسة تاريخية مع جلالة الملك فيصل -رحمه الله- جمعتني ووالدي -رحمه الله- معه في قصر الحكم الذي كان في فيلاّ غرب البغدادية، شمال محطة الكتبي للوقود المعروفة لأهالي جدة، والواقعة غرب عمائر رضا أمين.. أخبرت والدي وأنا في السنة الثالثة بثانوية الفلاح، بأني نظمتُ قصيدة تحية لجلالته بمناسبة عودته إلى الوطن بعد جولته المباركة التاريخية الآسيوية والأفريقية.. فطلب الوالد أن أسمِعَها لسمو الأمير عبدالله الفيصل الذي كان أحياناً يزور الوالد في سكنه ببيت ناظر في حارة الشام، لِما يجمعهما من شعر وأدب.. وجاء سموّه مرةً، فطلب مني الوالد قراءة القصيدة عليه، فقرأتها واستحسنها، وشجعني على إلقائها.. وذهبتُ مع الوالد إلى القصر الملكي، كنتُ مرتاحاً نفسياً لمقابلة الزعيم والقائد الملك فيصل.. وأثناء السلام عليه، حاولت أقبّل يدَه، فسَحَبها ولم أتمكّن من ذلك.. وبعد احتساء القهوة، استأذن والدي جلالته في أن ألقي قصيدتي بين يديه، تحيةً خاصةً له، وألقيتُها، وأذكر أني كنت أصرُخُ بصوت عالٍ للتغلّب على الخوف والارتباك الذي نابني عند مواجهة ملك غير عادي، صورةً وهيبةً وهيئة جاذبة للنظر وهو يحدّق بعينيه في هيئتي وسنّي.. وبعد الإلقاء تقدمتُ إليه وسلّمْتُه القصيدة، وعدتُ جالساً بجانب والدي.
في هذه الأثناء دخل رجل بدويّ إلى صالون الملك وهو يدَمْدِم بصوت جهوري قائلاً: يا فيصل، يا بن عبدالعزيز، فأجابه بالكلمة المعروفة عنه: سَمْ ، سَمْ.. (أعتقد أن معناها: أن يسمّيَ حاجته، أو حاضر سمعاً وطاعة).. فقال له: أنا مظلوم، وبدأ يعرض مشكلته.. فقاطعه الملك: لماذا لا تذهب إلى المحكمة التي هي مختصة بحلّ مثل هذه القضايا.. فقال الرجل: ولم تظلمني أكثر إلا المحكمة.. فطلبَ منه الملك تقديم أوراقه ليقرأها بنفسه، وأشار له الحرس بالجلوس والانتظار.. فجلس واستمرّ في الكلام وبصوت مزعج.. وببديهة عجيبة نظر الملك بسرعة إلى بعض أجزاء أوراقه، والتفت إليه، وأخذ رحمه الله يضع أصبعه السبّابة على أنفه الأشمّ كالخنجر، ويضغط عليه حتى يصل إلى طرف شفته العليا لفمه ثلاث مرات، ناظراً بدقة عينيه إلى ذلك المظلوم قائلاً له: أبشِرْ أبشِرْ، حتى هدأ رَوعُ البدوي ولاذ بالصمت.. وفي هذا الجو الرهيب المهيب قام والدي للسلام عليه وتوديعه.. هذا ما رأيتُه بعينيّ من ذلك الملك المنصف المتواضع، وكيف يتعامل مع رعيته بالعدل والإحسان -رحمه الله- وأسكنه فسيح جناته، وهذا ديدن حكامها منذ عهد المؤسس حتى الآن.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store