Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د.ساري بن محمد الزهراني

النص والخاصية النوعية في المقامة البغدادية 3-3

سديم

A A
إذا كان الهمذاني قد اعتمد على الاقتباس القرآني، واستثمار بعض التعبيرات القرآنية في ثنايا نص المقامة البغدادية؛ فإنّه في المقابل لا يغفل توظيف المثل العربي كما يلاحظ في قوله: «وَلَيِسَ مَعْي عَقْدٌ عَلى نَقْدٍ»؛ كإشارة موحية على أنّ من معه النقد يعقده في وعاء أو كيس، والفقير يُعدم ذلك كدالة على الفقر وافتقار اليد، ومن مثله -أيضًا- قوله: «قدْ نَبَتَ الرَّبِيعُ عَلَى دِمْنَتِهِ» بوصفها دالة على طول مدّة الوفاة وتقادم زمنها، أو كما في خاتمة المقامة «المَرْءُ يَعْجِزُ لا مَحَالَهْ»، وذلك في سياق حثّه على الحيلة من أجل كسب الرزق:

لا تَقْعُدَنَّ بِكُلِّ حَالَـهْ

وَانْهَضْ بِكُلِّ عَظِيمَةٍ

فَـ»المَرْءُ يَعْجِزُ لا مَحَالَهْ»

ومع ذلك؛ فإنّ المقامة البغدادية تزخر بالتّناص مع نصوص نثرية متعدّدة من جهة، ومختلفة المصادر من جهة ثانية، بعد أن أخضعها الهمذاني للغته الخاصة، فأصبحت منزاحة عن بنيتها اللغوية الأساس، ليعيد من ثمّة تكوينها وصياغتها في قالب لغوي مختلف، فغيّب عنها بناءها الأول ليقدمها للمتلقّي في قالب من السخرية والتندر.

ولذلك تضمّن نص المقامة ترداد بعض القوالب المحفوظة في النسق الجمعي التي تقتضي المعرفة المسبقة ما بين المتخاطبيِن، عطفًا على ضغط الامتثال للأعراف والتقاليد الاجتماعية؛ كالتمهيد للدعوة التي تفترض بدورها أسبابًا مقبولة، منها ما تكفلت به التحية، ومنها ما يتصل بمكوّنات الكنية، ومنها ما يرتبط بأسئلة تطرح عادة على المعارف، ومنها ما يحدّده سياق الحديث والموقف، كقوله: «وَحَيَّاكَ اللهُ أَبَا زَيْدٍ»، و»وَمَدَدْتُ يَدَ البِدَارِ، إِلى الصِدَارِ، أُرِيدُ تَمْزِيقَهُ»، و»هَلُمَّ إِلى البَيْتِ نُصِبْ غَدَاءً».

ولهذا؛ فالهمذاني سعى في نصّه إلى محاولة استدعاء حزمة من القوابل المتوارثة بالتفاعل معها، والتأثّر بها، حتى أصبحت لُحمة من النص، وجزءًا من تكوينه؛ بل تحول النص إلى حقول دلالية متشابكة في داخله ومنصهرة بجوفه، بحيث يستدعي الحاضر منها الغائب، والغائب الحاضر، فتتقاطع النصوص في وعي المتلقي بناءً على ثقافته ووعيه المعرفي، وهو ما يُنتِج نوعًا من التفاعل والتواصل، الذي من شأنه أن يجعل من النص نصًّا متناسلاً من نصوص أخرى تختبر ثقافة المتلقي وموسوعته لملء الفراغات التي يستدعيها النص.

إنّ أهمية التناص -أيًّا كان نوعه ومصدره- تأتي من خلال انفتاح نص المقامة على عوالم معرفية ومرجعية ثقافية، وذلك بتعدّدها وانشطارها، وتشابك علاقاتها بنصوص أخرى متنوعة؛ فاستحضار النص القرآني، والتراثي، والشعري، والعُرف المجتمعي يفرض على المتلقي أن يستدعي سياقًا حضاريًّا، وثقافيًّا، واجتماعيًّا لا يقف عند حدود العصر الذي نشأ فيه الهمذاني وأنشأ فيه مقامته؛ وإنما يتجاوزهما إلى ما قبلهما من عصور مع ما فيها من حمولات معرفية، وثقافية، واجتماعية، الأمر الذي يؤدّي إلى تحقيق أعلى درجة من فاعلية عملية التلقّي والاتصال، وبهذا أصبح النص منفتحًا على فضاءات معرفية واسعة، ومرجعيات تراثية متعدّدة، حتى استحالت المقامة وفق هذا المنظور مشرعة على عوالم تتجاوز إطارها الزماني والمكاني؛ بل إنها تتجاوز تجربة الهمذاني الذاتية، وهذا ما يؤكّد أنّ عملية الإبداع لا تنشأ من الفضاء، ولا تولد من فراغ، على اعتبار أن النص شبكة غير متناهية من التحوّلات الدلالية للنصوص التي استجمعته، وتناصّت به، وتفاعلت معه.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store