Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محمد بشير كردي

وفي الماضي لمن بقي اعتبار

A A
لمَّا سقطت الأندلس، وخرجت من أيدي المسلمين، بكاها شاعرها أبو البقاء الرندي -رحمه الله- ورثاها بقصيدة، مطلعها:

لكل شيء إذا ما تم نقصان

فلا يغر بطيب العيش إنسان

هي الأمور كما شاهدتها دول

من سره زمن ساءته أزمان

ونحن على غراره، ما نزال نردِّد مطلع القصيدة بالحزن والأسى منذ سقوطها، وسقوط أُولى (القبلتين وثالث الحرمين الشريفين) بأيدي الصهاينة، خشية أن يكون مصير فلسطين مشابهًا لسقوط الأندلس، فيبكي عليها الأحفاد وأحفاد الأحفاد إلى ما شاء الله... ولأنَّ عُرام الدنيا ومصائب الحياة ليست حصرًا بأُمَّةٍ دون سواها، ولا حِكرًا على شعب دون غيره..، ها هي أيَّام الرخاء والرفاه التي عاشتها شعوب القارة الأوروبيَّة بعد الحربين العالميتين آخذة بالانحسار.. وكأنَّه عقاب من الله تعالى على ما اقترفوه من ظلم وآثام وعدوان باحتلالهم العديد من بلدان عالمينا العربي والإسلامي، وما صاحبه من تسلط واستعباد، ونهب ثروات، وإثارة فتن وقلاقل وحروب.

فتاريخ فرنسا الاستعماري في الجزائر مثلًا خير شاهد على ما ولغوا فيه من قتل ما يزيد على مليون جزائري، ومثلهم أو أكثر من المعاقين والمهجَّرين.. والحال ذاته في سوريا ولبنان إبَّان انتداب فرنسا، لكأنَّ بلاد الشام على رحابة تاريخها الساطع المجيد قد خلت من أهل الحلِّ والعقد والدراية بأمور الإدارة والسياسة! والله جلَّ جلاله يُمهِلُ ولا يُهْمِلُ.

في أوروبَّا عامَّة، وفرنسا خاصَّة، ارتفعت بشكل غير مسبوق درجات الحرارة، مصاحبة بندرة الأمطار، وشحِّ مياه الأنهر والينابيع.. فجفَّت التربة، وانحسرت مساحات الزراعة الخضراء، وعمَّت الحرائق الغابات آتية على الأخضر واليابس، ومدمِّرة المنازل والمزارع.. وازداد معه إخلاء العديد من الفرنسيِّين منازلهم، وتدهور الاقتصاد الفرنسي، وتوقف تدفق عشاق السياحة والسفر عن فرنسا التي تصنف، ولأكثر من ثلاثين عامًا الأولى عالميًّا.. وقد بلغ عدد زوارها من السيَّاح الأجانب تسعين مليونًا عام 2019، منهم أعداد لا يستهان بها من أثرياء قومنا، وعشَّاق الفنون الجميلة من رسم وموسيقى وترفيه.

ولأنَّ الإنسان عدوُّ ما يجهل.. وما إن تبيَّن قسمٌ كبير من أبناء شعبنا حقيقة ما تتمتَّع به بلادنا ممَّا ظنَّ أنَّه حكرٌ عَلى أوروبَّا وسواها، حتَّى توجه العديد من هؤلاء إلى أماكن معتدلة الحرارة في هذا الفصل الساخن، وقد حباها الله بالماء والخضرة وطيب أهلها وكرمهم.. فكانت محافظة عسير، وعاصمة إمارتها مدينة أبها في الجنوب الغربي من المملكة.. أرض طيِّبة، بمساحة شاسعة يقطنها أكثر من مليونين من أبناء شعبنا.. وفي الطريق إلى مرتفعاتها مدينتا (الباحة والسوداء).. ويقصد القمَّة فيها عشاق تسلق الجبال من مختلف الجنسيات.. والوصول إليها متيسِّر برًا وجوًّا.. ومرافق الإقامة الحديثة فيها متوفرة، أسوة بمدن المملكة كافَّة. ولا بأس من الاستعانة بالذاكرة، وسرد ما سمعته ذات مرَّة من طبيب مختص بالأسرة، كان ممَّن أوفدهم الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه في لجنة إلى المناطق التي دخلت في حكمه، للوقوف على أحوال سكَّانها ومتطلَّباتهم.. أخبرني بأنَّ اللجنة انطلقت من العاصمة المقدسة مكة المكرمة في عز الصيف بالسيارات إلى الطائف، ومنها على البغال والحمير باتجاه الجنوب، مرورًا بقرى جمعت مع الماء والخضرة والوجه الحسن، وباعتدال درجات حرارة، وطيب معشر، وكرم ضيافة.. كان التوقُّف الأوَّل في دار الإمارة.. وقد جمع لهم الأمير الأعيان والوجهاء، وغالبيَّتهم من ربَّات البيوت.. استرعى انتباهه أنَّهم لم يسمعوا بالملك عبدالعزيز، ولم يعرفوا أنَّ مناطقهم ضمَّت إلى المملكة.. لم يكن ذاك مستهجنًا، فوسائل الاتصال كما هي اليوم لم تكن معروفة، لا إذاعة ولا صحف ولا مجلات، ولا باعة متجولون يأَتون من خارج المنطقة.. كان أهلوها يديرون أمورهم بأنفسهم.. وكانت النساء تتمتع بالمساواة المطلقة مع الرجال في الحديث والنقد والاعتراض والعمل، وكطبيب أسرة كما أخبرني، سأَل واحدة من الحضور عن العلاقات بين الجنسين في العمل وداخل بيت الزوجيَّة واجبات وضوابط! سمع الردُّ بأن الأمور شورى، والجميع يعمل في الزراعة، والبيع والشراء بالمقايضة.. وربَّات البيوت، يدبِّرن شؤون الأسرة، وتأمين متطلَّبات الزراعة، ولوازم البيت.

اليوم -وبفضل الله- لم يعد الوصول إلى عسير بالأمر العسير، فعسير ومدنها وقراها وسهولها ومرتفعاتها أضحت قبلة عشَّاق السياحة والاستجمام.. ويوليها أولو الأمر عناية مميَّزة لتجذب ملايين السيَّاح من داخل المملكة وخارجها وفقًا لخطة (تنمية 2030).

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store