Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. عادل خميس الزهراني

عبدالعزيز السبيّل.. متفق عليه!

A A
قبل أيام، وجدتُ نفسي أقف في أحد أسواق جدة الشهيرة مبتسماً أمام لوحة تعرض صورةً لشخص ينبض القلب فرحاً كلما رأى صورته، أو سمع صوته.. وهي عادة لم يحد عنها القلب منذ ثلاثة عقود.. كانت الصورة إعلاناً من وزارة الثقافة عن الفائزين بجوائزها هذا العام، وقد فاز دكتورنا عبدالعزيز السبيل بجائزة شخصية العام الثقافية في الدورة الثانية من مبادرة الجوائز الثقافية الوطنية لهذا العام، وذلك تقديراً لمسيرته الأدبية والثقافية الثريّة.

حين أُعلن -قبل سبعة عشر عاماً- عن تعيين عبدالعزيز السبيل وكيلاً لوزارة الثقافة والإعلام للشؤون الثقافية، فرحت جداً، وبدأت -بحكم عملي في الصحافة الثقافية- في إعداد تقرير مفصل عن التعيين وعن أهمية الموقع وتطلعات المثقفين وطلباتهم من الوكيل والوكالة.. كنت سعيداً، وكان القوم سعداء.. وفي اليوم التالي، فوجئت باتصال من وكيل الوزارة الجديد رغم كل مشاغله، يشكرني ويؤكد -بصدقٍ عرف به- على أننا شركاء العمل ورفاق المسيرة.. وفعلاً هذا ما كان؛ وكانت فترته في الوكالة ربيعاً للثقافة وأهلها بشهادة المنصفين والمنصفات.

أتذكر حضوره لأحد ملتقيات النص، وقد كان أحد أعضاء نادي جدة البارزين.. في تلك الليلة اختار الغذامي -كعادته- أن يشعل المكان، حين قرر في كلمته ضمن حفل الافتتاح أن يهاجمَ توجُّهَ الوزارة نحو تعيين أعضاء مجلس الإدارة في الأندية الأدبية لا انتخابهم.. هاجم الغذامي الوزارة وأعلن اعتزاله عن حضور أي محفل ثقافي، وكان إعلاناً مدوياً اهتز له الوسط الثقافي كاملاً.. وحين صعد السبيّل ليلقي كلمته -ممثلاً للوزارة هذه المرة- بدأ بالاتفاق مع الغذامي، ثم أكمل حديثه ليعطي لنا نحن الحضور درساً في الدبلوماسية والعقلانية.. وبعد نهاية الحفل، وقد كان الوضع مشحوناً بمفاجأة الغذامي، التقيت السبيّل فأخذني جانباً، وبدأ يسألني باهتمام عن وضعي مع رسالة الماجستير.. كانت لحظة مدهشة بحق، إذ لم يفته -في ذلك الخضم- أن يهتم بأمر شخصي يخصني، اهتماماً يشعرك بأن الموضوع يخصه هو.. ولعل هذه من سمات السبيّل الأثيرة، أعني قدره على أن يشعر جميع من حوله بأهميتهم لديه.

في حفل تكريمه بنادي جدة الأدبي أيضاً، حرصت أن اصطاد حواراً معه، فكمنت له في الفندق، وحين رآني ابتسم وعرف أنه قد وقع في فخٍّ صحفي، لكنه لم يتملص، وطاوعني برضا.. خرجت من الحوار بسبق صحفي، نشرته هنا في المدينة، ولا أزال أذكر خبرَه في الصفحة الأولى باعتزاز.

تلك الليلة.. كرّم نادي جدة الأدبي -باسم مثقفي ومثقفات المملكة- عبدالعزيز السبيّل على جهوده وتفانيه في قيادة العمل الثقافي، وكانت ليلة حبٍّ ووفاء لا تُنسى.. وحين صعد السبيل المنبر ليلقي كلمته ظلَّ يكررُ اسمي ويعود للحوار (الكمين) الذي فوجئ به قبل ساعات، حتى كأن الحوار وصاحبه كانا القضية، ولم يكن هو قضيةَ الليلة وعريسَها المتوج.. تلك الليلة غادرت الحفل بشعور من الاطمئنان.

اطمئنانٍ لطالما عوّدنا السبيل على الشعور به منذ عقود؛ بالنسبة لجيلنا، كان السبيّل علامة فارقة في الثقافة والنقد.. كان ذلك الصوت المتزن الذي نشعر بالاطمئنان ونحن نستمع له طلاباً في مدرسته، وظلَّ ملهماً لنا ونحن نتابع إنتاجه الثقافي (يكفي أن نتذكر دوريتيْ نوافذ والراوي اللتين كان السبيّل خلف ظهورهما).. حين عاد في التسعينيات، كنا في حاجة لصوته العاقل المتزن ليعيد لنا وللساحة صوابَها المفقود.. وكان دائماً قريباً، يستمع لنا، ويرشدنا، ويشعرنا بأهميتنا.

حين عُيّن السبيل وكيلاً لوزارة الثقافة، جهّزت تقريراً صحفياً مفصّلاً في الصفحة الثقافية كما قلت.. وبعد أن انتهيتُ من الصفحة وقد كنت مشرفاً عليها، كتبتُ مقالاً عن السبيّل لأنشره فيها.. لكنّ نائب رئيس التحرير رأى -وقد كان على حق- أن الأفضل نشرُ التقرير الصحفي دون المقال، لأن التقريرَ يمثّلُ رأيَ الناس، أما المقال فيمثل صوتَ الصحيفة، وقد صدق.

كان فكرة مقالي يومَها أننا لو اعتمدنا مصطلحات علم الجرح والتعديل لكان تصنيف السبيّل يقع تحت قائمةِ: (متفق عليه)، وذلك لاتفاق المثقفين والمثقفات حول شخصية السبيّل وجدارته لقيادة العمل الثقافي بالمملكة.. لم أنشر المقال طبعاً.. لكنني بعد أكثر من عِقْدٍ ونصف، وجدتُ نفسي -وأنا أتجوّل مع عائلتي في أحد أسواق جدة- أمام صورة لرجلٍ ينبض القلب بحبه، فابتسمت.. ولأنني لم أعد أمثّل صوت الصحيفة، لأني لم أعد أعمل فيها محرراً، قررتُ أن أنشر المقال اليوم، بنفس عنوانه القديم؛ (عبدالعزيز السبيل.. متفق عليه).

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store