- تُهيّج الذّكريات لدى معظمِنا مشاعر مُتضاربة، لكن جوهرها هو الألم، وبخاصة مما ينتابُنا من حنينٍ لأيام الطفولة، نتيجة الشُّعور بالخفّة من أيّة أثقال ماضيةٍ وأحمال سابقة.. إنها فترةٌ خفيفةٌ من العيشِ في الحاضر، من دون ندمِ الماضي ولا قلقِ المُستقبل.
- من المُزعج، أن تكتشف مع التقدّم في العُمر، أنّ الذكريات السّعيدة أيضاً لها نصيبها من الحنين والألم!. يقول الدكتور (غازي القصيبي): «مُشكلتي الحقيقية ليست النسيان، مُشكلتي كثرة الذّكريات!». وهنا أقول: أنا ضحيّةُ الذّكريات، وحنينُ الفقد، والتفاصيلُ الصغيرة، تلك التي تُدغدغ انفعالاتي وتقضّ مضجعي.
- كان اليونانيون القُدماء يعتبرون «الحنينَ» مرضاً مؤلماً، وأراهُ داءً عُضالاً، لا يُداوى ألمُه ولا يلتئم جرحُه ولا يُرجى برؤُه، إنّ الحنينَ وغد.. بل هو لعنة، وأراه من حالاتِ الإدمان غير المُصنّفة.. كإدمانِ الماضي، وعبقِ الذكريات، والأماكنِ القديمة، وأشخاصٍ ذهبوا ولن يعودوا.. لذا، أنا في حالةِ إدمانٍ عنيفة، لا أرتجي منها التّعافي، ما حييت.
- يُشير (دوستويفسكي) إلى مُعضلةٍ عويصة، تكمُن في ذكرياتٍ يخشى الإنسان أن يكشف عنها حتى لنفسه، وهي التي أراها الذكريات نفسها التي تطاردُ أحدَهم أثناء نومه.. وتنغّص عليه أحلامه، تلك التي ظنّ أنّه نسيها وتجاوزها، وهي قابعةٌ في قبو دماغِه.
- يحدثُ أحيانًا، أن يوقظك حنينُ الفقد، واضطرابُ المَشاعر، وشوقُ القلوب من نومك فجأةً وأنت تعتصر رغبةً وألماً وتشتتاً وندماً، وهي حالةٌ لو استمرّت أياماً طويلةً، قد تُصيبك بالمرض، أو الجنون.. حظّاً طيّباً!.
- «إنّ هذه الذكريات شاقةٌ على النفسِ يا صديقي.. إنّها تطعنُ قلبك مرّة، ثم يبقى الجرحُ نازفاً إلى الأبد».. هكذا قال (دوستويفسكي)، لكنّه يعودُ فيعزّينا بقوله: «كلّ شيء يموتُ يا حبيبتي الغالية، حتى الذكريات وحتّى أنبل العواطف، ويحلّ محلّها نوعٌ من الحِكمةِ الباردة يجعل النّدم يهدأ، فلماذا نثور؟!».
- أُشفق كثيراً على مرضى الأرق المُزمن، فمُعظمهم يصعبُ عليهم التعامل الصحّي مع الذّكريات المؤلمةِ ومشاعرِ الحنين واضطرابِ المِزاج، يصفُ الدكتور (أحمد خالد توفيق) حالة التذكّر الرّهيبة والتّداعي المُتكرّر للمعاني بقوله: «لو كان بوسع المرءِ أن يغرس خنجرًا في مُخّه ليقتطعَ الجزءَ الذي يحملُ ذكرياتٍ مُعينة، لغدَت الحياةُ جنّة».
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
