Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

الأيديولوجيا.. فوضى الإسقاط

A A
لا تكاد تقرأ مقالاً (ساخطًا) أو تغريدة (متشظِّية) إلا وتجدهما طافحين بمصطلح (الأيديولوجيا)، الذي صار نغمة تتردد على ألسن البعض، ومركبًا لهم للوصول إلى غاياتهم، وتهمة جاهزة يسقطها البعض على غيره؛ بغرض التعبير أو الإسكات. الأيديولوجيا في أبسط تعريفاتها تعني مجموعة التصورات والاعتقادات والأفكار التي يتبناها الفرد ويبني عليها حياته، وقد يصل لحد التعصب لها، من هنا أجزم أنه ما من أحد يتنفس الهواء إلا وهو مؤمن بفكرة ما أو أكثر، وقد جعلها غايته وبذل في سبيلها ما بوسعه؛ إيمانًا بها ودفاعًا عنها وترسيخًا لها.

السياسي مؤمن بغاياته، والمحافظ مؤمن بمبادئه، والمثقف مؤمن بتوجهاته، والمفكر مؤمن بأفكاره، والرياضي مؤمن بانتمائه، والمزارع مؤمن بأهدافه، والتاجر مؤمن بممارساته، والفنان مؤمن بهواياته، وعلى هذا فكل شريحة من شرائح المجتمع لديها أفكار تنزع إليها وتنتظم في طابورها، ثم لا تلبث أن تتعصب لها وتدافع عنها، وبالتالي فهي -والحال هذه- واقعة في حبائل الأيديولوجيا من حيث تدري ولا تدري. المفارقة هنا أن كل شريحة من شرائح المجتمع تدَّعي عدم التقاطع مع الأيديولوجيا وعلائقها، في الوقت نفسه تدَّعي وصلًا (متينًا) بالنقاء والطهرانية من الأيديولوجيا وشِراكها، والشاهد في الأمر أنَّ مَن هذه حاله -مع أنه لا يمكن أن تتحقق- فهو شخص لا معنى له ولا هدف له، مهما تمسك بأهداب الحرية الفردية وادَّعى الابتعاد عن الانتماءات الضيقة.

دعوى التحرر من الأيديولوجيا دعوى لا تصمد أمام كَمِّ الشواهد التي يغص بها واقع المجتمعات اليوم، غير أن الذي أوهم البعض بأنه متحرر من الأيديولوجيا وبعيد عن شباكها وفخاخها، هو عملية حصر الأيديولوجيا في فئة بعينها دون سواها، وهي الفئة المحافظة، وعلى هذا ترسَّخ في العقلية الجمعية أن المحافظين -وحدهم- هم من يقع في أسر الأيديولوجيا، والواقع يشي بأن الجميع لديهم انتماءات ولديهم أفكار يؤمنون بها ويدافعون عنها، بل ويتعصبون لها، وقد تكون مخرجات هذه الأفكار مريرة. لنأخذ على سبيل المثال فئة المثقفين وعلاقتهم بالأيديولوجيا، هنا ترتسم علامات التعجب؛ كون القارّ في الذهنية الجمعية أن المثقفين ليس بينهم وبين الأيديولوجيا تقاطع، في حين يأتي (جيرار ليكلرك) في كتابه (سوسيولوجيا المثقفين) ترجمة (د.جورج كتورة) ليقول: «لا يُعتَبر المثقفون من مستعملي الأيديولوجيات أو من المروجين لها فحسب، بل من المنتجين والمبدعين لهذه الأنظمة من الأفكار، مؤكدًا على أن «المثقفين المسيطرين هم من الأيديولوجيين، وأن الأنتلجنسيا (النخبة المثقفة) هي مملكة إنتاج الأيديولوجيات بامتياز». وحينما نتحول للفلسفة نجدها تقوم على الأيديولوجيا؛ ففي بحث على الشبكة لـ(جون شوارز مانتل) نشرته مجلة (الاستغراب) في عددها السادس (١٤٣٨هـ) يقول: «بالإمكان القول إن الأيديولوجيات تُرشِّح أو تسرِّب الأفكار التي يتبناها الفلاسفة لتدخلها في عقول العامة»، ثم تحول مانتل لليبرالية ليقول: «إن ما تشهده الليبرالية هو عبارة عن أيديولوجيا أولية يعتقدها الشخص بخياره الفردي». وعلى هذا فلو تتبعنا بقية التيارات والمذاهب لوجدناها كلها تنطلق من مبادئ وأفكار تؤمن بها، ثم مع مرور الزمن تتعصب لها، وهذا يعني أنها واقعة في أَسْر الأدلجة، وممارِسة لها، لكنها لا تشعر بذلك؛ انطلاقًا من الفكرة السائدة القائلة: بأن هذه التيارات والمذاهب هي بمنأى عن الأدلجة؛ لذلك فمعظم من يمارس الإسقاط على المختلفين معه متهمًا إياهم بالأدلجة؛ ينطبق عليه المثل: (رمتني بدائها وانسلت). وعليه، فالمأمول الحد من فوضى إسقاط هذا المصطلح على المختلف؛ كون ممارَسة هذا الإسقاط أصبحت وسيلة إقصاء وانتقام وتشفٍّ، ومن كان دأبه ممارسة عملية الإسقاط هذه، فهو واقعٌ في الأيديولوجيا، ممارسٌ للأدلجة، وإن نفى ذلك عن نفسه، وصدق المثل الشعبي: «غبِّرْ يا ثور على قرنك».

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store