Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
طارق علي فدعق

كفــــــــوف

A A
من الأمثال الشعبية العربية الجميلة هي أن «جزاء المعروف مجموعة كفوف».. سبعة في بعضها، وعشرة في البعض الآخر.. ومهما تعددت فلن تغير قسوتها لمَن قدَّم المعروف، حتى ولو كان كفاً واحداً. ولو بحثت عن تطبيقات المثل ستجد أن أعدادها تفوق الحصر في العديد من القطاعات، واخترت لكم أمثلة غير متوقعة من عالم الفضاء، فمَن يُتابع آخر تطورات غزو الفضاء، سيجد أن من أهمها في الصين.. حيث ظهرت مستجدات خلال العشر سنوات الماضية تفوق ما أنجزته الدول العظمى في ستين سنة.. من تكوين منظومة الملاحة الكونية الصينية «بيدو»، إلى تشييد محطة الفضاء الصينية «تيانجونج»، ومعناها «قصر السماء»، إلى المهام المختلفة إلى القمر، وإنزال مركبة على سطح المريخ، وغيرها.. كلها بدأت بالكفوف، وتحديداً بالإهانة للمدعو «تشي ين سواسن»، الذي كان من أبرز علماء البحرية الأمريكية في مجال الصواريخ في منتصف الأربعينيات الميلادية خلال القرن العشرين.. وبالرغم من أصوله الصينية، فكان من نجوم برنامج الفضاء الأمريكي؛ فقد بحر في مجالات فضائية جديدة، لدرجة أنه مُنح مرتبة استثنائية برتبة «عقيد» في القوات الجوية الأمريكية عام 1945؛ لاستجواب أهم علماء الصواريخ النازيين بنهاية الحرب العالمية الثانية. وبعدها بتسع سنوات تم اتهامه بدون أية أدلة، ضمن موجة محاربة الشيوعية في الولايات المتحدة.. وتم تجريده من رتبته وطرده من البلاد بالكامل. وبعد هذه الإهانة، سافر إلى الصين، فوجد الترحيب من أعلى المستويات، التي منحته أكبر الصلاحيات لتطوير قطاع الفضاء الصيني، فأصبح «أبوالفضائيات» الصينية، ووضع الأسس الفنية الحديثة لهندسة الفضاء، ولا تزال بصماته في ذلك القطاع إلى اليوم.

وقصتنا الثانية من الولايات المتحدة.. ففي فجر برنامج الفضاء في وكالة الفضاء «ناسا».. مع بدء الاستعداد لإنزال الإنسان على القمر عام 1961، كانت الفكرة السائدة لفلسفة البرنامج هي صعود الصواريخ المباشر.. واختصارها أن تستخدم الصواريخ لحمل البشر، والعتاد، والوقود من الأرض إلى سطح القمر على بعد حوالى أربعمائة ألف كيلومتر.. كانت تبدو وكأنها فكرة منطقية، ولكنها في الواقع لم تكن عملية، بسبب كمية الوقود الخرافية اللازمة للرحلة.. وجاء مهندس شاب في وكالة الفضاء اسمه «هوبولت»، واقترح أن يتم إرسال ثلاث مركبات إلى مدار القمر، وتستخدم واحدة فقط في النزول، وعليها اثنان من الرواد، بينما يبقى الرائد الثالث في مدار القمر بانتظارهما.. فكرة كانت جريئة جداً، ولم يقبلها كبار مسؤولي الوكالة، لأنها لم تبدُ منطقية؛ لتعدُّد المركبات والفكفكة والتركيب على مدارات مختلفة.. ولهذا السبب تعرض «هوبلت» إلى الاضطهاد لدرجة أنه استقال قبل إطلاق رحلة «أبولو 11»، التي هبطت على سطح القمر في يوليو 1969، وكانت فكرته هي أساس برنامج «أبولو» لإنزال 12 رجلاً على سطح القمر.

وقصتنا الثالثة من الاتحاد السوفيتي سابقاً، وبطلها «سيرجي كورولييف»، حيث كان ولا يزال الأب الروحي لفلسفة الفضاء السوفيتية والروسية منذ نشأتها إلى اليوم.. فقد صمَّم منظومات الإطلاق والصواريخ الأساسية، وأشرف على تصاميم المركبات المختلفة منذ إطلاق أول صاروخ سوفيتي في أكتوبر 1957. ولكن اسم هذا الرجل لم يُدوَّن في تاريخ علوم الفضاء؛ إلا بعد أكثر من أربعين سنة على إنجازاته.. لم يُعرف اسمه إلا بعد وفاته، وأما أثناء حياته، فقد قضى فترة تُقدَّر بأكثر من خمس سنوات في المعتقلات السوفيتية بتهم «خيانة صناعة صواريخ الوطن»، قبل أن يُقدِّم إنجازاته الرائعة لعالم الفضاء.

* أمنيــــة:

قدَّمتُ ثلاثة أمثلة لمن «أكلوا» كفوفا قوية في عالم الفضاء، علما بأن أمثالهم مفروض أن تُحافظ عليهم أوطانهم، لأنهم عملات نادرة جداً في قطاعات حسَّاسة. تخيَّل عدد الكفوف التي ستُوجَّه إلى البشر في القطاعات المختلفة اليوم حول العالم.. أتمنى أن يُخفّف الله عليهم، ويمنع عنهم الظلم، وهو من وراء القصد.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store