Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

عبدالله البريدي.. استقلالية فكر

A A
في واحدة من حلقات #بودكاست_فنجان، التي يُقدِّمها المتميز عبدالرحمن أبو مالح، كان الحوار ماتعًا وثريًا مع شخصية تُكبِر فيها توازنها واستقلاليتها الفكرية، التي لا تركن للآراء والنظريات الجاهزة، وهذه الشخصية هي المفكر الكاتب السعودي الدكتور عبدالله البريدي. يُحمد للبريدي رؤيته المتوازنة واعتزازه بهويتِه والمفيدِ النافعِ من التراث العربي والإسلامي؛ ولذا نجده في مسألة (مصادر المعرفة) يأخذ على العرب والمسلمين أنهم كما يقول: جعلوا (المُنظِّر الغَرْبي) هو الذي يُنظِّر لنا ويضع لنا مصادر المعرفة، ويرى البريدي أن مصادر المعرفة لنا -نحن العربَ والمسلمين- تتمثل في أربعة مصادر هي: (الخبر الذي هو المصدر الديني المقدس الذي هو قطعي الثبوت قطعي الدلالة ممثلاً في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، ومصدر الحواس ويدخل فيه المنهج التجريبي، والمصدر الاستنباطي بالعقل، وأخيرًا المصدر الحَدْسي)، وهذا الأخير يقبل به الدكتور لكن بحذر.

البريدي هنا يأخذ على الغرب إزاحتهم للمصدر الأول (الخبر)، كونه -برأي الغرب- ميتافيزيقيًّا لا يخضع للتجربة، وبعضهم يزيح المصدر الرابع (الحدسي)، وهنا يدعو البريدي إلى ديمقراطية المعرفة؛ كون الإنسان الغربي إنسانًا متطرفًا في الفكر والفلسفة حينما يأخذ مصدرًا من مصادر المعرفة، وينسف بقية المصادر. ثم يطرح وجهة نظره عن عصور الظلام الأوروبية التي واكبت عصور الحضارة العربية والإسلامية، فيرى أن الأوروبيين احتكوا بالمسلمين وبدأوا ينقلون علومهم، وهنا يشير إلى قضية مهمة؛ وهي أن الأوروبيين لم ينقلوا كل شيء؛ فعقيدة المسلمين ودينهم وأدبهم لم ينقلوها، وإنما نقلوا العلوم الطبيعية وعلوم الطب والفلك، ولم يُحيلوا إلى المصادر التي أخذوا منها، فتشكَّل لديهم بعد عصور الظلام؛ عصرُ النهضة، وكأنه يُصادق على ما سبق أن ذكرته في مقالي (النهضة العربية لا تصنعها الأوهام) حينما قلتُ: «في فترة ازدهار النهضة العربية الإسلامية؛ هل كان مفكرو أوروبا -المتخلفة وقتَها- يُطالِبون بأن تسلك أوروبا مسلك العرب والمسلمين؛ فتصحح عقيدتها وتحطم الأصنام وتنابذ الشرك وتنشر الخير -كما فعل العرب والمسلمون- لتصل إلى ما وصلوا إليه؟، إطلاقًا لم يقولوا بذلك، بل كانوا يبعثون طلابهم لأخذ فرائد العلوم والمعارف العربية والإسلامية، والانطلاق منها لبناء نهضة أوروبا».

وعن قضية الإعجاز العلمي في القرآن، يطرح البريدي رأيًا متوازنًا بين القبول والرفض؛ فيرى أن القرآن ليس كتاب عِلم لكن فيه إضاءات علمية ومفاتيح علمية، ولذلك يأخذ على مَن يقول بأن القرآن هو فقط كتاب ديني، ولا يرفض قضية الإعجاز العلمي، ولكن يرى أنه ينبغي ألا نُطبِّقه بالطريقة التي يُطبِّقها بعض المتحمسين اليوم. وفي جانب اللغة يُخالف البريدي -تمامًا- مَن يرى بأن العالم سلَّمَ باللغة الإنجليزية، ويرى أن التفكير يتعلق باللغة، ولذا لا تستطيع أن تفكر بعمق إلا بلغتك الأم، ومن فكر بغير لغته فهو مثل تفكير الطفل الذي يُفكِّر بالحسيات، ولا يستطيع التفكير بالمعاني التجريدية. وفي جانب العِلم يرى أن العِلم لا بد أن يُساءل بالمنظار الديني الأخلاقي؛ لأن العلم إذا تركته دون مساءلة، يستبد ويتغوَّل. ختم البريدي آراءه المستقلة بالفلسفة؛ حيث يرى أن الخطورة في عالمنا العربي أن هناك متحمسين لها أكثر من اللازم، ويُسمِّي هذا الحماس (استبدادية الفلسفة)، حيث جُعلت الفلسفة هي المصدر الأوحد للمعرفة وهذا خطأ، ويتساءل أين الدين والعلم والأدب والفن إذن؟ -وهنا أُحيل لمقالي في المجلة الثقافية بصحيفة الجزيرة (لا تغلوا في الفلسفة) الذي طالبت فيه بعدم الغلو في الفلسفة- في الوقت نفسه يقلقه إقصاء الفلسفة، ثم يأتي برأي حاسم عن الفلسفة حين يراها أنها (ليست عِلمًا)؛ كونها لا تعطي دليلًا أو برهانًا متماسكًا، وهذا هو الذي يميز العلم.

البريدي جعلنا نطمئن على أن بيننا مفكرين لم يفقدوا توازنهم ولم ينابذوا تراثهم ولغتهم، فكانوا مستقلين في تفكيرهم وآرائهم، وهو بهذا يتقاطع مع الفيلسوف الروسي (ألكسندر دوغين) الذي أعطى -من خلال حوار علي الظفيري معه في برنامج المقابلة- مثالًا حيًّا على أهمية الاعتزاز بالهوية، ودلل على أن الأمم والشعوب الحرة لا تقبل أن تكون تابعة، وإنما تكون مشاركة في صناعة التاريخ العالمي واتجاهاته.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store