Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محمد بشير كردي

حمَّامات من اليابان إلى لبنان!

A A
مَن قدِّر له الإقامة في مدن اليابان أو أريافها، وتجوَّل في حاراتها الشعبيَّة، لابدَّ أنَّه راقب عن قرب توجه سكان من في الحارة إلى حمَّام السوق على الساعة الثامنة من مساء كل يوم، وهم يتبخترون ويتمايلون بأجسادهم مرتدين (الكومبنو)؛ لباسهم الشعبي، ومنتعلين القبقاب الخشبي المتحكم في خطواتهم، وفي كل يد طاسة معدنية بداخلها ليفة وصابون وآلة حلاقة الشعر.. ومن المؤكِّد أنه شاهد للحمَّام بوابتين متقابلتين.. وأمام الداخل من كلا البوابتين مغطس ماء ساخن، يتسع للعشرات من قاصديه.. ويتصاعد من المغطس بخار كثيف يحجب الرؤية وجهًا لوجه.. وعلى طرف كل بوابة دواليب لحفظ الملابس والمقتنيات الشخصية، ثم رشاش ماء بارد، فعشرات من صنابير الماء الساخن والماء البارد.. وأمام كل صنبور ماء كرسي خشبي لجلوس من أتم غسل بدنه برشاش الماء، لاستكمال تنظيف الجسم من قمة الرأس حتى أخمص القدمين.. بعدها يستلقي في المغطس للاسترخاء على صوت موسيقى هادئة مريحة للأعصاب.. وهكذا يعود بعدها من حيث أتى استعدادًا للنوم، وقد استعاد صفاء ذهنه وراحة جسده.

ذكرتني حمَّامات اليابان تلك بمثيلاتها حمَّامات السوق الدمشقية التي عمَّت الأحياء ومراكز التجمع السكاني مع دخول الإسلام بلاد الشام، ومن بعد بلدان الخلافة الأموية وأريافها في المشرق والمغرب دخولًا إلى الأندلس التي هي اليوم إسبانيا والبرتغال، في وقت كانت الشعوب الأوروبيَّة المجاورة لا تعرف الاستحمام، ولا تستخدم الليفة والماء والصابون.. ولأن الحديث عن الحمَّامات ذو شجون لي، فقد أعادني الحديث إلى الحمَّامات في العهد الأموي، والأثرية منها في دمشق خاصة.. ومنها (حمَّام الراس) الذي جاء وصف له في كتب التراث الدمشقي.. ويعود تشييده لعام 1564ميلادية، في عهد لالا مصطفى باشا، والي دمشق العثماني.. وقد سمِّي بهذا الاسم لوجود رأس ينبثق منه الماء على بحرة الحمام البرانيَّة.. أُغلق الحمّام عام 1942.. ويُرجع بعض موثقي التاريخ تسميته (حمَّام الراس) إلى ممارسة الشرطة في النصف الأول من القرن العشرين مكافحة انتشار القمل في شعر الرأس والملابس، ممَّا دعاها لغسل رؤوس البدو والفلاحين القادمين إلى المدينة في هذا الحمَّام.. وحلق شعر الرأس كان إجباريًّا.

يمتاز (حمَّام الراس) من غيره من الحمَّامات بوجود مبخرة خاصة لمكافحة القمل.. وكان الدرك أيامها، وبأمر من (القائم مقام)، يلقون القبض على القادمين من البادية والقرى النائية الذين كانوا يتجمعون غالباً بأسواق الشام المركزية للبحث عن عمل، أو لقضاء مصالحهم.. وكانوا غالبًا ما ينامون في الخانات أو على الأرصفة تحت مراقبة الدرك.. عند الاشتباه بهم، يساقون إلى صاحب (حمَّام الراس) لعدِّهم ثم قبض الحساب، (الحكدارية) آخر الأسبوع.. وعند مدخل الحمَّام مقصورة بها المبخرة، تُنتزع الملابس كاملة وتبخَّر ليتم إزالة ما علق بها من القمل، ثم يدخل أصحابها الحمَّام فرحين لكونه بالمجان.. وهنا يأتي دور (البلَّان) الذي يوزع عليهم صابون الزرنيخ المزيل للشعر.. وهناك أيضًا كان يقف الدرك بالمرصاد، ليعيدوا لهم ملابسهم التي أزيل عنها القمل بوساطة التبخير، ثم يطلقونهم للاختلاط بالناس.. وقد أزيل شعر الرأس والرموش والشنب واللحية والبدن، دون أن يلحظوا ذلك عند خروجهم من الحمَّام.

لا يختلف مفعول الزرنيخ في (حمَّام الراس) آنذاك عن مفعول أرباب السلطة في لبنان اليوم بإزالة مدَّخرات اللبنانيِّين بعلمهم أو بدونه.. وتظلُّ إزالة قمل الرأس، أنظف من إزالة ما في جيوب الناس!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store