Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

المعازيم.. أفواه مغلقة وآذان مفتوحة!

A A
تحوُّلات متسارعة شهدها المجتمع السعودي خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة، هذه التحوُّلات جعلتنا لا نكاد نرسو على بَرِّ تحوّلٍ إلا وجاء تحوّلٌ آخر، فصادر ما قبله، وأدخل المجتمع في تحوُّل جديد. تحوُّلات عديدة عاشها مجتمعنا السعودي، وتتابعت على فئاته المتنوعة وأطيافه المتعددة، ومن تلك الفئات فئة (المعازيم)، وفئة المعازيم هنا هي ثلة من الرجال الذين يُلبُّون دعوةَ مضيِّفيهم في المناسبات، كمناسبات الزواج أو الضيافة، وسأتطرَّق لثلاثة تحوُّلات. أول هذه التحوُّلات كان قبل ثلاثين سنة، وهو ما يمكن تسميته بـ(الوضع الطبيعي الحميمي) الذي وجده المجتمع أمامه ونشأ عليه؛ حينما كان المعازيم يحضرون إلى مقر المناسبة (زواج أو ضيافة)؛ فيتسع أمامهم الوقت، ويصفو لهم الجو، ليجلس كل صديق إلى صديقه، وكل صاحب صنعة أو حرفة إلى مَن يُماثله، ويلتقي الغائبان بعد طول غياب، فيكون الوقت ملكهما لتبادل الأحاديث، والسؤال عن الأحوال، وما حملت الأيامُ والسنينُ لكل واحد منهما خلال فترة الغياب، ولا يكاد يحضر وقت تقديم الطعام للمعازيم؛ إلا وقد وفَّى المجلس بحقهم وأشبع حاجاتهم في لقاء بعضهم بعضًا، والتحدث في شؤون شتى من شؤون الحياة. تلا هذا الوضعَ الطبيعيَّ تحوُّلٌ جديدٌ اكتسح ما قبله، وغيَّر معالم المناسبات، وحوَّلها من مناسباتٍ (طبيعية حميمية) إلى مناسبات (وعظ)، وهذا التحوُّل تزامن مع مرحلة الصحوة التي غشيت المجتمع السعودي؛ حيث لا تكاد تجد مناسبة زواج أو مناسبة ضيافة إلا ويتخللها (كلمة وعظية)، وما كان يُميِّز تلك الكلمات الوعظية أنها لم تكن مُطوَّلة؛ بل كانت في معظمها موجزة، لكن انتشارها وتمدُّدها في مناسبات الزواج والضيافة وغيرها كان واسعًا. ومع أن التذكير أمرٌ مرغَّب فيه، إلا أن هناك ملحظين: الأول- أن بعض المواعظ ربما تطرَّقت لقضايا لا يستوعبها أكثر المعازيم، الملحظ الأخير- أن المناسبات مناسبات فرح وسرور، وربما حوَّلها بعض الوعاظ إلى كدر وحَزَن. وقد تخلَّلت هذه المرحلة أصوات نادت بأن تبقى هذه المناسبات على طبيعتها دون وعظ، واستعانت بفتاوى لبعض كبار العلماء ترى أن الأفضل أن تبقى المناسبات على طبيعتها؛ ليتمكَّن الحضور (المعازيم) من التحدُّث إلى بعضهم، لكن المفارقة هنا هي أن تلك الأصوات نفسها التي لم تتحمل عشر دقائق من الوعظ؛ صارت اليوم تتحمَّل الساعة والساعتين من الصخب في المناسبات نفسها، وربما شاركت في هذا الصخب. لم تكد الصحوة تتوارى حتى أطلَّ تحوُّل جديد تمثَّل في (الصخب)، وهذا الصخب يأتي في شكل شيلات متواصلة تُزلزل أركان المناسبة، أو في شكل حفل خطابي هادر ممتد لا يترك مجالًا لأي حديث بين اثنين، أو في شكل قصائد متتابعة تصم الآذان، حتى يلجأ بعض المعازيم للخروج إلى خارج قاعة المناسبة، والبعض يتأخر عن الحضور للمناسبة حتى انتهاء هذا الصخب. هذا الصخب يمتد من بعد صلاة المغرب إلى حين تقديم طعام العَشاء، أي أنه استولى على أفضل أوقات المعازيم، ومما ساهم في تفشي هذه الظاهرة هو وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الخاصة؛ كونها تنقل للمجتمع ما دار في المناسبة، وهو ما يجعل صاحب المناسبة يتعمَّد وجود هذا الصخب.
لعل هناك مَن يقول: إن المناسبات هي للفرح، فأقول: وهل الفرح لا يتحقق إلا بصخب الشيلات والقصائد والخطابة التي تأخذ وقت المعازيم؟، أجزم أن المعازيم حضروا إكرامًا لصاحب المناسبة، ثم للقاء بعضهم بعضًا، والتحدُّث عن أمور حياتهم ومعاشهم، لا ليكونوا رهائن لهذا الصخب، ولم يحضروا ليغلقوا أفواههم ويفتحوا آذانهم ثم يملؤوا بطونهم، وبعد ذلك ينصرفون؛ ولذا فإنني - كنتُ وما أزال - أُفضِّل أن تبقى مناسباتنا على طبيعتها، ولا يتخللها وعظ ولا صخب.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store