Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
فاتن محمد حسين

من تحت أنقاض الزلزال.. انتشلوني!!

A A
‏في حجرتي الصغيرة وبين أسِرة أطفالي الأربعة، هجعنا للنوم في ذلك الليل البهيم.. لا نعلم ما يخبئه لنا القدر.. تناولنا طعاماً من بقايا الأمس، والتحفنا أغطية مهترئة عساها أن تقينا شيئاً من جبروت الشتاء؛ فالثلوج هاجمت نوافذ حجرتنا في سطح المبنى الذي ألحق به مطبخي الصغير؛ الذي أعد فيه طعام أطفالي، ودورة مياه تقطر ثلجاً؛ نلجأ إليها وقت الحاجة الملحة، هذه الشقة هي حيلتنا في الحياة.. ولكنها نعمة عظيمة نستشعرها كلما رأينا آخرين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، وبعضهم في خيام تغتالها الثلوج.. ويُغرقها المطر.. وتقتلعها الريح.. فأدعو الله لهم بأن يُعوِّضهم جناته جزاء صبرهم، وغياب ضمائر البشر الذين كانوا سبباً في تشريدهم بادعاءات سياسية وحزبية، لا ناقة لهم فيها ولا جمل. ‏ولم تغمض عيني سوى برهة من الزمن؛ حتى استفقت على كارثة تدحرج ذلك المبنى بطوابقه الست، وانقلابه رأساً على عقب، وصرخات أطفالي تختلط مع صرخات أطفال الجيران والنساء، وتزلزل المكان.. وتكبيرات الرجال تدوي.. هلع ورعب وذهول.. تقطَّعت أوصالي من الذعر، مَن أُغيث؟ مَن أحمل مِن أطفالي؟ وأنا لا أقوى حتى على حمل نفسي.. يا الله.. يا رباه يا غوثاه، في ثواني معدودة أصبحنا جميعا تحت الأنقاض.. نعم ربما قامت القيامة في لمح البصر.. أم هو قدر الله؟، أو قوته وبطشه، أو غضبه.. فكم أمهلنا وكم صبر على العاصين والفاسقين والفاسدين منَّا.. ولكن غضبته هذه المرة جاءت لتُدمِّر كل شيء.. نعم إنه الزلزال أو العذاب الذي عاقب به الله الأمم السابقة.

سمعتُ صوت صاحب المبنى (قارون) وهو يستغيث، بالرغم مما يملكه من الأموال والمباني ما لا يُحصى له عدداً!! الملهى الليلي الذي أنشأه في وسط الحي كم تزلزلت الأرض من صوت موسيقاه الصاخبة.. ناهيك عن زبائنه من الفاسقين، والفاسدين، من شاربي الخمر، والشواذ، والزناة.. وغيرهم من الذين يحتضنهم هذا المكان.. يا الله كم حذَّرتك يا قارون، كم نصحتك ولكنك كمن وضعوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وأصروا واستكبروا استكبارا.

هل تستغيث الآن يا قارون؟!، لن تنفعك الاستغاثة، أنت الآن تحت الركام.. فأموالك لن تُغني عنك من الله شيئًا، الرشاوي التي تعاملت بها، والربا والفساد المالي والعسكري مع الأحزاب المتناحرة لسنوات، دمرت فيها الوطن الذي أكل الأخضر واليابس.

يا الله ما أرحمك، فأنا تحت جدار يقيني الركام وأستطيع التنفس.. ولكنه ظلام دامس كظلام القبور.. أصرخ وأستغيث وأسمع صرخات وأنين الآخرين.. أرتجف من البرد، والخوف يُمزّقني، بقيتُ ساعات وساعات، وربما أيامًا لا أستطيع التحرك، تأمَّلتُ في حالنا، وتذكَّرتُ الآية الكريمة: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ).. نعم لم نشكر النعم حق شكرها، وبعدنا عن الله، وتمسكنا بشريعة الغاب.. لماذا لم نعتبر من الأمم السابقة؟!، قوم نوح أُهلكوا بالغرق، وعاد بريحٍ صرصرٍ عاتية، وثمود بالصيحة فكانوا كهشيم المحتظر، وقوم لوط أُرسل عليهم حاصباً، وفرعون وأتباعه بالطوفان، وتذكَّرت رد الرسول صلى الله عليه وسلم على زينب حينما سألته: أنهلك وفينا الصالحون؟، قال: نعم إذا كُثر الخبث.!

نعم غرَّتنا الحياة بمباهجها وزخرفها، ونسينا أخذ العبرة والعظة من الأمم السابقة واللاحقة!!.

أتفكَّر في هذا، ويخطر في ذهني دعاء سيدنا يونس عليه السلام: (لا ‌إِلَهَ ‌إِلَّا ‌أَنْتَ ‌سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، وقوله تعالى: (فَلَوۡلَاۤ أَنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطۡنِهِ إِلَى يومِ يبۡعَثُونَ) وبدأتُ أُكرِّر الدعاء، تذكَّرت أصابعي التي كنتُ أُسبِّح بها، لا أستطيع تحريكها، متيبّسة، أو ربما متقطّعة!! لا أدري.. كل ما أستطيع تحريكه هو لساني وقلبي المملوء بالإيمان.

بعد ساعات وساعات، سمعت أصواتًا قريبة إلى قلبي بلهجتها ولكنتها، وكلمات أُدركها.. إنهم رجال مركز الملك سلمان للإغاثة، بدأت أصرخ يا الله.. يا الله أنا هنا.. اقتربت الأصوات.. يوجد هنا أحياء!!، وأصوات سيارات الإسعاف تقترب مني.. نعم قرب فرج الله، وأُزيحت الصخرة الجاثمة على صدري، نعم انتشلوني.. وكمولود يشهق أولى شهقاته في الحياة، وُلدتُ مِن جديد.. صرختُ بكل قوة: (يا الله هل مِن متّعظ؟!).

ثم أفقتُ على يد تقول لي: ما بالك؟! هل هو كابوس...؟!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store