Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
طارق علي فدعق

قبضــــــــاي

A A
سأبدأ ببعض الدراما.. حاول الطبيب الاستشاري المتمكن د. عمرو بخاري إنقاذ ضرسي الضاحك رقم 5 بكل الإمكانيات المتاحة، ولكن سنوات من الاستمتاع بحلاوة الفوفل، واللدو، واللبنية، والمكسرات جعلت الموضوع ميؤوساً منه، فكانت النهاية، وفقدتُ الضرس الغالي فأصبح باكياً.. وبالرغم أن الضرس قاوم الخلع بالشعبطة اليائسة، كانت الكلمة الأخيرة للخبرة، والحرفية، والكماشة، فخرج بعد خدمة دؤوبة دامت لأكثر من ستين سنة.

والخطوة القادمة ستعتمد بتوفيق الله على مجموعة إجراءات لاستبدال الفاقد بتقنية زراعة الأسنان، وفي قلبها أحد أغرب العناصر الطبيعية وهو «التيتانيوم»، ومن اللائق أن يطلق عليه لقب «قبضاي» المعادن.. اسمه ينبع من أساطير إغريقية تاريخية تصف القوة الجبارة المقرونة بالحجم الضخم، والهيمنة.. كلمة «تايتان» تعكس هذا، وربما أكثرها شهرة هي السفينة العملاقة البريطانية «تايتانيك» التي غرقت في أبريل 1912.. ونعود لضرسي فنجد أن عنصر «التيتانيوم» له أهمية كبيرة في عالم الطب.. ومن الغرائب أن بالإضافة إلى خصائص القوة الجبارة والوزن الخفيف، فهو يتميز «بالبكش» في أقوى أدواره.. وتحديداً فالجسم البشري لا يشعر باعتراضات على وجود هذا المعدن بداخله، وبالتالي فلا يسبب ردة فعل عنيفة مثل الحال للمعادن الأخرى، مثل الحديد الصلب، والألمونيوم، والزنك، والتنك، وغيرها.. ولذا فيستخدم في زراعة المفاصل الصناعية، والأسنان بنجاح بمشيئة الله.. وكونه من العناصر غير الممغنطة فلا يسبب صعوبات في تقنيات التصوير الطبي باستخدام الرنين المغناطيسي.. ويتميز عن المعادن الثمينة مثل الذهب والبلاتين بقوته.. ولكن مزايا التيتانيوم لا تقتصر على عالم الطب.

بعد فقدان ضرسي الغالي، سافرت على متن طائرة جديدة من طراز بوينج 787، وتعجبت أن حوالى 18 ألف كيلوجرام من مكونات هذه التحفة الهندسية مصنوعة من عنصر «التيتانيوم».. ونظراً لقوته وخفة وزنه، فهو يستخدم بكثرة في المكونات «حمالة الآسية» أي التي تتعرض للأحمال والإجهادات الهائلة مثل منظومة العجلات.. ومعظم الطائرات الحديثة تستخدمه بكميات مختلفة.. وعموماً فهي تصل إلى عشرات الأطنان ولا تقل عن عشرة في المائة في الطرازات المختلفة من طائرات بوينج وإيرباص وغيرهما، بسبب خصائصه المتميزة.. وللعلم فأسرع طائرة نفاثة في العالم وهي من طراز «الطير الأسود إس آر 71» كانت مصنعة من هذا المعدن بنسبة تفوق التسعين بالمائة.. كانت فريدة في خصائصها، ومن أهمها مقاومة حرارة الاحتكاك الهائلة، وهذه إحدى أهم التحديات التي تواجه الطائرات السريعة جداً، وكان هذا العنصر هو الوحيد الذي وفر خصائص القوة ومقاومة الحرارة الهائلة وخفة الوزن بطرق ميّزته عن العناصر الأخرى.. ومن الطرائف أن المعدن لم يكن متوفراً في الولايات المتحدة بكميات وفيرة في مطلع الستينيات، فتم استيراده في ذروة الحرب الباردة؛ من الاتحاد السوفيتي.. يعني كانت أمريكا تحصل على المعدن من عدوتها لتصنع طائرات للتجسس عليها.. قمة «فراخة» التقنية. ولكن مزايا هذا العنصر لا تقتصر على عالم الطيران.

الروابط بين ذرات التيتانيوم والأوكسجين أسطورية في قوتها، لدرجة أنها تُشبه الروابط بين قيس وليلى.. أو عنتر وعبلة.. أو روميو وجوليت.. ولذا فمعظم كميات التيتانيوم الطبيعية تجدها في حالة اتحاد مع الأوكسجين. وإحدى أكثر وأهم التطبيقات لهذا الاتحاد تجدها في عالم الطلاء، وبالذات اللون الأبيض الناصع.. ستجده في عالم العمران، والنقل، والمأكولات، والمكياج وغيرها.

* أمنيـــــــة:

لا تقتصر روائع هذا العنصر القبضاي على عالم الطب، والفضاء والطيران، والطلاء، كما ذكرت أعلاه، فله استخدامات بيئية مهمة جداً يتم من خلالها تنظيف الهواء بفعالية عالية، فهو حقاً من العناصر «الواعدة» للمستقبل المستدام. أتمنى أن ندرك أن من نعم الله علينا أن أرض الوطن تحتوي على هذا العنصر بكثرة، فخيرات المملكة تضعنا في المركز الخامس عالمياً في إنتاجه، ولدينا أيضاً صناعة وطنية متميزة وجادة لتطبيقاته بتوفيق الله، وهو من وراء القصد.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store