Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. علي آل شرمة

الأسر المنتجة.. نماذج للعفة وعزة النفس

A A
نماذج مشرقة نصادفها يومياً في حياتنا لشباب في عمر الزهور ونساء يقفن شامخات كأشجار النخيل الباسقة وهم يقومون بعرض منتجاتهم، التي غالباً ما تكون عبارة عن مأكولات سريعة أو مشروبات ساخنة أو منتجات بسيطة، مثل ألعاب الأطفال أو الحرف اليدوية. هؤلاء هم الذين يُطلق عليهم مصطلح «الأسر المنتجة»، وهم أشخاص متميزون رفضوا طلب الإعانة من الآخرين، أو الوقوف أمام الجمعيات الخيرية، وتوكلوا على خالقهم، واختاروا بمحض إرادتهم أن يكسبوا قوتهم بعرق جبينهم وكد أيديهم، فاستحقوا الثناء، ونالوا التقدير والإعجاب.

إذا بحثنا عن الأسباب التي تدفع أولئك النسوة إلى العمل لأوقات طويلة، نجد أن معظمهن ارتضين القيام بهذه المهمة العظيمة بعد أن دفعتهن تقلبات الحياة إلى ذلك، بسبب وفاة الزوج أو غيابه أو إصابته بمرض، وبعضهن بسبب الطلاق وغير ذلك من الأسباب، وعلى كل، فإنهن استطعن تجاوز الصعاب والوصول إلى قصى درجات النجاح بعزيمة حديدية لا تلين وإرادة لا تقهر، وبذلك شطبن من قاموسهن مفردة المستحيل.

وإن كان القاسم المشترك بين معظم هؤلاء المتعففين؛ هو عزة النفس والكبرياء، فإن كثيراً من الدراسات الاجتماعية تشير إلى أن أبناءهم ومن يعولونهم غالباً ما يكونون من المتفوقين في دراستهم، والناجحين في حياتهم، لأنهم يشبون وقد زرع آباؤهم وأمهاتهم في دواخلهم حب العمل والاعتماد على الذات، وعدم الشعور بالخجل من العمل مهما كان بسيطاً، وأن كفاحهم واجتهادهم يجعلهم يفخرون في المستقبل بأنهم صنعوا مستقبلهم بأنفسهم، واختاروا طريقهم بإرادتهم.

ولا يخفى علينا أن كثيراً من العظماء الذين خلّد التاريخ سيرتهم كانوا يعملون أعمالاً بسيطة في بداية حياتهم، وأن ذلك كان دافعاً لهم للنجاح والتطور، ويكفي أن سيد الخلق نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم كان يرعى الأغنام في براري مكة وهو صبي، قبل أن يسافر بتجارة السيدة خديجة رضي الله عنها، وأن نبي الله داود عليه السلام عمل بالحدادة وكان يأكل من عمل يده، وأن كثيراً من عظماء العالم كانوا في الأصل فقراء واعتمدوا على أنفسهم، ورفضوا الاستسلام لقسوة الحياة، فوصلوا إلى أعلى الدرجات بسبب ذلك.

ومن واقع معرفتي المباشرة بكثير من هذه الأسر المتعففة في نجران، فإن كثيراً من أبنائهم نالوا أعلى الدرجات العلمية، وتفوقوا رغم ظروف الحياة الصعبة على غيرهم من الشباب المستهترين، الذين لا يعرفون من الحياة سوى اقتناء أحدث موديلات الهواتف الجوالة والملابس الغالية والتفحيط في الشوارع بالسيارات الفاخرة؛ التي لم يتعبوا ليعرفوا أسعارها، ومع ذلك ليس لهم من حظ سوى الفشل المتكرر.

ومع التقدير الكامل لما تقوم به الأجهزة المختصة، وما توفره البلدية من خدمات لهذه الفئة الغالية على نفوسنا، فإن المطلوب يبقى أكثر من ذلك، وسقف المطالب يرتفع كثيراً بصورة متواصلة، فاحتياجات الأبناء تتزايد بصورة شبه يومية، وكلنا يعلم ذلك جيداً، لذلك نتوقع من الشركات الكبرى أن تمنحهم نصيباً أكبر من عنايتها؛ ضمن برامج المسؤولية الاجتماعية التي تحرص على القيام بها.

نتمنى إقامة مناطق خاصة بفئة الأسر المنتجة أمام كافة محلات التسوق الكبرى والحدائق والمتنزهات الرئيسية التي تشهد إقبالاً كبيراً، وأن يتم تشييد بسطات وأكشاك لهم تقيهم حر الصيف ولسعات البرد ومياه الأمطار، على أن تكون مزودة بالخدمات الرئيسية مثل الإنارة والتكييف، وأن يتم منحهم التصاريح اللازمة التي تمكنهم من العمل في أجواء من الأمن والطمأنينة.

وأختم بالقول ان هؤلاء هم إخواننا وأمهاتنا وأخواتنا من المتعففين ذوي الكرامة وعزة النفس، الذين امتلأت نفوسهم بالكبرياء والعفة، ورفضوا أن يمدوا أياديهم بالسؤال، واختاروا أن تكون أياديهم هي العليا.

فالدعم الذي نوفره لهم يؤدي بصورة مباشرة لتقليل عدد الشرائح الضعيفة في المجتمع من الذين يعتمدون على الجمعيات الخيرية وأموال الصدقات والزكوات، لأنه يعينهم على تلبية احتياجاتهم دون انتظار مساعدة من أحد، كما أن أبناءهم الذين تربوا وشبوا بالرزق المكتسب من الجد والتعب؛ سوف يسيرون حتماً على نفس هذا الطريق المضيء.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store