Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

بين ثورتين!!

A A
يمكن أن يقال إن غايات الثورات النهائية هي التغيير، وهذا التغيير يحصل نتيجة رغبة القلة -وربما الكثرة- لإحداث تغيير في مجريات الأمور بحجةٍ (ظاهرُها) الوصول للحالة الأفضل.

في فترةِ ما قبل العصر الحديث كانت معظم الثورات تحقق النجاح في وقت وجيز، وكانت سلبياتها تكاد تكون محدودة؛ وذلك يعود لعوامل عدة أسهمت في الحد من آثار تلك الثورات.

الأمر الذي ربما يجهله البعض هو أن ثورات -أو انقلابات- اليوم ليست كثورات الأمس، وليس بينهما تشابه في كثير من التفاصيل اللهم إلا في المسمى؛ فالفارق بين ثورات الأمس وثورات اليوم هو أن ثورات الأمس، (ما قبل العصر الحديث)، كانت آثارُها محدودة ولا تتجاوز أضرارها المباشرة وغير المباشرة محيطها؛ الذي وقعت فيه، أي (المؤسسة السُّلطوية وما حولها)، أما بقية الرعية -خارج هذا النطاق- ففي الغالب لا يصلهم من أضرارها شيء ولا تتأثر حياتهم بها، وربما لا يعلمون عنها إلا بعد فترة من الزمن؛ لأنه لا تربطهم مصالح مباشرة بالدولة وسلطاتها؛ كون الدولة ليست لديها مؤسسات، وإن كان من مؤسسات فهي مؤسسات غير فاعلة، وليس هناك من خدمات تقدمها تلك المؤسسات، وليس هناك من أنظمة وتشريعات فاعلة ترتبط بها أمور الرعية وتتوقف مصالحُها عليها؛ أي أن الدولة -وقتَها- ليست رعوية حتى تتأثر مصالح الرعية بما تتأثر به الدولة، هذا أولًا.

ثانيًا، ليس هناك وسائل تواصل (حديثة وسريعة) للتسريع بخبر الثورة إلى أفراد الشعب كافة، وهو ما يجعل الثورة محصورة آثارها وأخبارها في مكان حدوثها، ولا تكاد تتوسع وينتشر خبرها إلا بعد فترة ربما تطول.

ثالثًا، لم تكن المؤسسة السلطوية في تلك الأزمنة ذات قوة ومنعة وحصانة؛ بحيث تجعلها في مأمن من أطماع الثوار، وتسهم بالقضاء السريع على الثورة ومنابعها، وإلا لما رأينا الثوار زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يحيطون بداره ويدخلون عليه ويخرجون دون أن يحول بينهم وبين الوصول إليه حائل.

أما ثورات اليوم فإنها تختلف اختلافًا جذريًّا عن ثورات الماضي؛ فأضرارها جسيمة وتتخطى المؤسسة السلطوية وما حولها، وتصل إلى أفراد الرعية كافة؛ وذلك عائد لكون الرعية (كلها) تعتمد على خدمات مؤسسات الدولة، ومصالحُها -صغيرُها وكبيرُها- مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمؤسساتِ الدولة وأنظمتِها وتشريعاتِها، بالتالي فأي محاولة لزعزعة أمن أي دولة واستقرارها؛ نتيجتُها المباشرة تعطُّل مصالح الرعية (كلها) والإضرار بها (داخل الدولة وخارجها).

الأضرار المترتبة على الرعية لا تتوقف على مؤسسة أو مؤسستين فقط، بل تشمل المؤسسات كلها مع تفاوت بينها؛ حيث تتعطل مصالح الفرد المتعلقة بالتعليم والصحة والاتصالات والمصارف، وقس ذلك على بقية مؤسسات الدولة، وذلك لأن الارتباط اليوم بين أفراد الرعية ومؤسسات الدولة هو ارتباط حتمي لازم لا مناص عنه، وأصبحت أمور حياتهم كلها مرتبطة بها، وحينما يتزعزع استقرار الدولة -أي دولة- وتدب الفوضى فيها -حينها- تتدنى وربما تنعدم خدمات مؤسساتها، وهو ما ينعكس على تعطل مصالح الرعية كلها، ولعلنا رأينا كيف تعطل الكثير من مصالح الاخوة السودانيين داخل السودان وخارجها بمجرد قيام التنازع بين الجيش وقوات التدخل السريع، وعليه فكلما طال أمد فوضى الثورات أو الانقلابات؛ طالت معاناة الرعية وضاع مستقبل أجيالها.

من هذا يعلم أنه لا خير في زعزعة الأمن والاستقرار بما يسمى (الثورات أو الانقلابات)، وأن الأمن والاستقرار يضمنان أداء العبادات وحفظ الأنفس وأداء الحقوق وتحقيق النفع العام والتنعم بالخدمات وازدهار التنمية واستمراريتها.. حفظ الله لنا وللعرب والمسلمين أمننا واستقرارنا، وجنبنا وإياهم الفتن.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store