Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. أيمن بدر كريّم

عن الحق والحقيقة.. وأوهام الحرية

A A
مِن بين جميعِ الآراءِ والمُعتقَدات، أنتَ تختار تصديقَ الأجمل والأقلّ إزعاجاً لنفسك، والأكثر انسجاماً مع موروثاتك.. وبهذا، ما تظنّه الحقيقة، هو أقرب إلى الوهمِ والخُرافة. فالإنسانُ لا يفهمُ إلا ما يقعُ ضمن أُطره الفِكرية، وموروثاتِه الثقافية، ومُسلّماته العقَدية.. وهو يلجأُ إلى تكذيبِ ورفضِ ما لا يستوعبه عقلُه ضمنَ تلك الحُدود.. لذلك فمعظمُ الناس ليسوا أحراراً فكريّا كما يظنُّون.

لكنّ المشكلةَ تكمنُ في التعصّبِ الذي يُصاحبُ «الحقيقة»!، والسلوكِ المتطرّف من أجلِ إثباتِ الآراءِ والمُسلّمات، يقولُ (فولتير): «إنّ الحقّ في التعصّب حقٌّ عبَثي وهمَجي، إنه حقُّ الوُحوش وإن فاقَه بشاعَة.. فالوحوشُ لا تُمزّق بأنيابِها إلا لتأكل، أما نحن، فقد أفنينا بعضَنا بعضاً من أجلِ مَقاطع ورَدت في هذا النصّ الدِّيني أو ذاك».

حين تضعك الحياةُ أمام اختيارات، فهي تخدُعك بأنّ لك حرّية التصرّف، لكنّ الواقع أنّك تختار ما تُجبرك عليه، فأنتَ نتاجُ ظروفِ الحياةِ نفسِها التي فُرِضت عليكَ سَلفاً، وأسيرُ خياراتٍ مُحدّدة لأسباب اجتماعيةٍ وجيناتٍ وراثيّة وعُقد نفسيةٍ كثيرة. وحين يجري كلّ شيء على نحو ٍجيّد.. يميلُ الإنسانُ للاقتناع بأنّ ذلك نتيجةَ إرادته الذكيّة وقراراتِه الحُرّة.. مع أنّ ذلك مجرّد أكذوبةٍ آسرةٍ ووهمٍ جميل.

لا تملكُ الحياةُ بالضّرورة صفقةً عادلةً تعرضها عليك، وليسَ عليها أن تُعاملك بطيبةٍ لأنك إنسانٌ طيّب كما تظنّ، ولا أن تُحسِن إليك لاعتقادِك بأنّك تستحقّ. صحيحٌ أنّه من واجبك المُحاولةُ والاجتهاد.. لكنّ القضيةَ ليست بمجهودِك فحسْب في واقعِ الأمر، فالنّجاحُ يرجعُ بمعظمِه إلى ظروفٍ اجتماعيةٍ مُتناسقةٍ، وعوامل بيئيةٍ مُواتية، وحظّ وجودك في زمنٍ معيّن ومكانٍ معيّن.. «من جدّ وَجد»، جملةٌ ليست دقيقةً أبداً، بل - أحياناً - مُضلِّلة.

إنّ الأوهامَ اختراعٌ بشريُّ بامتياز، فالعقلُ لا يُمكنه تحمّل الحقيقةَ المُجرّدة.. لذلك، كلُّ ما نُحاول فعلَه في واقعِ الأمر، هو البحث عن عزاءاتٍ لمُحاولةِ النّجاة من صدْمات الأوهام،

والتعاملِ مع خيْبات الأملِ الحتميةِ المُتكرّرة. لقد تميّز (سُقراط) بحكمتهِ عن غيره، بمعرفته أنّه لا يعرفُ شيئاً.. لذلك، لا داعي للتشنّج والتعصّب، كلّ شي قابلٌ للشكّ، وليس هناك طريقةٌ للتأكّد من الحقيقةِ المُجرَّدة، وعموماً، السّعادةُ في الوهم.. الحقيقةُ صادِمة.. فكونوا سُعداء!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store