Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
نبيلة حسني محجوب

ابن البلد.. وابن الناس

A A
جرت العادةُ اللسانيَّةُ على إطلاق لقب «ابن البلد» على الشَّهم الكريم، والمدنيِّ المتحضِّر حتَّى وقت قريب، ثمَّ خفتت، أو غاب من كلام النَّاس مصطلح «ابن البلد»، وكأنَّ «أبناء البلد» الذين يتَّصفُون بصفاتٍ خاصَّةٍ تُميِّزهم عن غيرهم من أفراد المجتمع قد انقرضُوا!.

ربَّما، لأنَّ مفهوم «ابن البلد» يُؤخذ على معانٍ أُخْرَى، لا تنتمي للمعنى الحقيقيِّ المرتبط بهذا اللَّقب، لكنِّي وجدتُ مبرِّرًا قويًّا لإعادة طرحه وطرح مفهومه، عندما صادفني -خلال قراءتي لـ»قاموس العادات والتَّقاليد والتَّعابير المصريَّة»، لـ»أحمد أمين»، وهو أكبرُ من مجرَّد قاموس؛ لأنَّ القارئَ يجد متعةً فائقةً وهو يقرأ القصص والنَّوادر، والنُّكت والطُّرف الواردة في الكتاب، في سياق إرجاع المفردة إلى أصلها وشرحها وتبسيط معناها، وربطها بالعادات المجتمعيَّة خلال النِّصف الأوَّل من القرن العشرين، وربَّما قبلَهُ أيضًا.

ما لفت نظري في هذا التَّعبير «ابن البلد، وابن النَّاس»، أنَّنا في مكَّة، أو في الحجاز بشكلٍ عامٍّ، نستخدمُ المفردتَين بنفس المعنى تقريبًا. يقول «أحمد أمين»: (ابنُ البلد: نالت هذه الكلمة شهرةً كبيرةً بينَ النَّاس، وكان لها مدلولٌ يختلفُ باختلافِ العصور، وقد أدركتُهَا منذُ خمسين عامًا تُطلَق على الرَّجلِ الذي يجمعُ صفاتٍ مختلفةً في ملبسهِ وحديثهِ، وهيئتهِ وطريقةِ سلوكهِ).

وكذلك «ابن الناس»، صفةٌ للرَّجلِ الكريمِ الأصل، ومثلُه «ابن الأصولِ».

لكنَّ «أحمد أمين» يُسهب في وصف «ابن البلد»، من حيث اهتمامهِ بلباسهِ وأناقتهِ، ووصف خامةِ قماشِ قفطانهِ وعمامتهِ، ولون جبَّتهِ، وضرورة انسجام الألوان، كذلك وصف عمامتَه وانسجامَها مع قفطانهِ وحزامهِ، وأنْ يكون وجهه حليقًا، وأنْ يكون مقصوصَ الأظافرِ دائمًا.

أي أنَّ «ابن البلد» كما يقول: (يُعْنى بكلِّ شيءٍ في هندامهِ، وهو في كلِّ ذلك نظيفٌ أنيقٌ يتحرَّجُ من أي شيءٍ يعلق بثيابهِ أو بأطرافهِ).. تلك الصفات مع اختلاف نوعيَّة الثِّياب -لـ»ابن البلد» عندنا- من الجبَّة إلى الثَّوب الأبيض بياضًا نقيًّا، وبدلًا من الطَّربوش، العمامة المشهور بها رجالاتُ مكَّة، ممَّن ينطبق عليهم «أبناء البلد»، لكنَّ الانطباق الحقيقيَّ هو في العنايةِ بالنَّظافة وحُسن الهِندام، ولفِّ العمامة بطريقةٍ تُناسب مهنتهُ، فلكلِّ فئة اجتماعيَّة عِمامةٌ تُميِّزهم.

أورد أيضًا مجموعةً من العبارات التي تمثِّل لازمةً في كلام «ابن البلد» أثناء حديثه: (فهو بين كلِّ كلمةٍ وكلمةٍ يقول: «بَلَا مُؤاخذة»، و»يكرم مَن سمع»، و»وعن إذنِكَ»، و»أعزَّكَ اللهُ»، و»أكرمَكَ اللهُ»، ونحو ذلك من الكلمات الشَّائعة بينهم، الدَّائرة على ألسنتهم).

هكذا كان رجالاتُ مكَّة يتخلل حديثهم مثل تلك العبارات وأكثر، مثل قولهم لتصحيح معلومة قالها أحدهم أثناء الحديث: «وأنتَ الصَّادقُ»، أو «تصديقًا لكلامِكَ» تعقيبًا أو إضافةً، كذلك اختيارهم عبارات لكلِّ مناسبة، وعند دخول منزل -حتَّى منازلهم- لابدَّ من إشعار مَن بالمنزل بدخولهم: «دسْتُور» أو «طَرِيق»، وعند التحدُّث مع النِّساء غير المحارم، حتَّى لو كنَّ كبيراتٍ في السنِّ، يتحدَّثُون إليهنَّ، وأعينُهم في الأرض.

كنتُ دائماً أشعرُ بالحنين لأسلوب التحادث في المجتمع المكي، المتسم بالرقي والاحترام؛ لذلك وجدتني أنحازُ إلى هذه المفردات والصفات التي يتصف بها «ابن البلد»، كما كان يسمى.. هجرنا كلَّ شيء جميل في سلوكنا وعاداتنا، لكنها ضريبة العصر، لابدَّ من الإزاحة لإحلال الجديد، لكن يمكننا المزاوجة بين كلِّ جميل قديم، وجديد عصريٍّ.

أحيانًا أُتابع بعضَ المشاهد التي تسوقُ عبارات ومفردات أهلِ الحجاز قديمًا على وسائل التَّواصل، لكن -للأسف- معظمها يُطرح بطريقةٍ سمجةٍ، ولا تليق بالقيمةِ الحضاريَّة للحجاز التي كانت حاضرةً منذُ بناء الكعبة المشرَّفة، التي تُمثِّل أوَّلَ بيتٍ بُني على الأرضِ، كذلك وصف مَن يتمسَّك بمفرداتِهِ القديمة بأنَّه «بلديٌّ»، هل هذه العبارة انتقاصٌ مثلًا؟!.

لا أعرفُ، أنا امرأةٌ مستمسِّكةٌ بتراثي، وممعنةٌ في فرضه على الأبناءِ والأحفادِ؛ لأنَّ مَن ليس له ماضٍ، فهو كالمُنْبتِّ، لا أرضًا قطعَ، ولا ظهرًا أبقَى.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store