Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
نبيلة حسني محجوب

قوة الجهل

A A
هل للجهل قوَّة؟! للإجابة عن السؤال الذي دهمني لحظة رؤيتي الكتاب على أرفف إحدى المكتبات العريقة في معرض كتاب جدَّة 2023م، مددتُ يدي ووضعته ضمن الكُتب والرِّوايات التي اخترتُها. كان الجهل بمحتوى الكتاب يحرِّضني على قراءته تلك اللَّحظة، لكن لا المكان، ولا الزمان -على رأي وردة- مناسبان للقراءة.

خلال صراع الرَّغبة في معرفة قوَّة الجهل، وتجوالي بين الكُتب أنتقي منها ما يربطنِي بكُتَّابها معرفة؛ عن طريق قراءة إنتاجهم الفكريِّ أو الأدبيِّ، فكَّرتُ أنَّ هاجس أو صراع المعرفة يوازي قوَّة الجهل التي تدفع القارئ لشراء الكُتب، وتُحفِّزه على القراءة، ثمَّ الانهماك فيها مهما مضى به الوقتُ، وراوده النعاسُ كلَّما ينتهي من صفحة، يقلبُ الأُخْرَى، وكلَّما أنهى فصلًا، دفعه فضولُهُ أو الرَّغبة في المعرفة لمواصلة القراءة، لكنْ اكتشفتُ أنَّ قوَّة الجهل ليست كما تصوَّرتُ، كما اكتشفتُ أنِّي لم أتخلَّص من عادة شراء نفس الكتاب.

يقول الكاتب «دايف تروت»، في المقدمة: لقد علَّمتني القصص أكثر من المحاضرات. وقد كُتِب هذا الكتاب لأشخاص مثلي.

الكتابُ مليءٌ بالقصص عن الأشخاص والشَّركات، والأساليب التي ساهمت في نجاح كثير من المؤسَّسات والشَّركات والأشخاص، قصة المقدِّمة عن «قوَّة الجهل» أنقلُها بتصرُّف؛ لأنَّها تُوضِّح قوَّة الجهل -من وجهة نظر الكاتب- وهي مختلفة عن فكرتي عن قوَّة الجهل قبل قراءة الكتاب.

القصَّةُ عن طالبٍ أمريكيٍّ يدرس البوذيَّة، قرَّر لقاء أحد المعلِّمين البوذيِّين الكبار، جلسا متربِّعَين على الأرض، وأخذ الطالبُ في استعراض معرفته عن البوذيَّة، أمَّا المعلِّمُ فأخذ يصبُّ الشَّاي في كأسٍ، بينما الطالبُ مسترسلٌ في سرد الكتب التي قرأها، وأسماء المعلِّمين المشهورِين، وأسماء المعابد التي زارها جميعًا، لكنَّ التَّوتر كان باديًا عليه، بينما لازال المعلِّمُ يصبُّ الشَّاي في الكأسِ، الذي أخذ في الامتلاء، بينما لازال المعلِّمُ يصبُّ الشَّاي في الكأسِ، أخذَ الطالبُ يتحدَّث بطريقة أسرع عن مختلف أساليب التأمُّل التي مارسها، والمعلِّمُ مستمرٌّ في ملءِ الكأسِ حتَّى طفحتْ، وبدأ الشَّاي ينسكبُ من حوافِّها ويسيلُ على الطَّاولة ومنها على الأرض.

صرخ الطالبُ قائلًا: توقَّف، توقَّف، لقد امتلأت الكأسُ.

أجابه المعلِّمُ: إنَّ رأسكَ يشبهُ هذهِ الكأس، وهو مترعٌ إلى درجة أنَّه لا يتَّسعُ إلى أيِّ شيءٍ آخرَ، عليك أنْ تفرغَ ذهنك إذا أردتَ استيعابَ أيِّ شيءٍ جديدٍ.

«إنَّنا نخشى التخلِّي عمَّا نعرفه، فنحنُ نكتسبُ المعرفة ونتشبَّثُ بها، ولا يسعنا تعلُّم أيِّ شيءٍ جديدٍ بعد ذلك»، يقاربُ معظم النَّاس المشكلات بفمٍ فاغرٍ «نشعرُ بأنَّه يجبُ أنْ نكون أوَّل مَن يُقدِّم الحلَّ. ونظنُّ بأنَّ المعرفةَ قوَّةٌ، والجهلَ ضعفٌ».

يؤكِّد على أهميَّة طرح الأسئلة، ولأنَّنا نخشى أنْ نقولَ بأنَّنا لا نعرفُ ونطرحُ الأسئلة، وما دمنا لا نقولُ لا نعرف مطلقًا، فلا يمكننا اكتشاف أشياءَ جديدةٍ. إنَّ كأسنا مترعةٌ لا تتَّسعُ لأيِّ جديدٍ.

عندما يقول سقراط، الفيلسوف اليوناني العظيم، خلال نقاشه مع مينو: «إنني أكثر حكمة من هذا الرجل...، إنه يدعي أنه يعرف شيئاً، رغم أنه لا يعرف أي شيء.. في المقابل، أنا لا أعرف أي شيء، ولذلك لا أدعي أني أعرف أي شيء... إنني لا أدعي معرفة ما لا أعرفه».

يُعَبِّر لاوتزو Lao Tzu «مؤسِّس المدرسة الطَّاويَّة» عن ذلك قائلًا: «يعلمُ الرجلُ الحكيمُ بأنَّه لا يعرفُ. أمَّا الأحمقُ فلا يعرفُ بأنَّه لا يعرفُ».

كم عدد الحمقى الذين يملأون قنواتِ التَّواصل، ويفتُونَ في كلِّ علمٍ؟! وكم عدد الحمقى الذين يتداولُونَ وينشرُونَ سخافتهم وجهالتهم؟! مَن صنعَ شُهرةَ هؤلاء الحمقى؟! لا أملكُ الجوابَ، فقط مجرَّد سؤال ربَّما يعبِّر عن «قوَّة جهلي»!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store