Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
نبيلة حسني محجوب

عندك فكرة محرجة؟!

A A
رجل الأعمال البريطاني «تشارلز ساتشي» Charles Saatchi (1943م) قال هذه العبارة: «اطلق العنانَ لأفكاركِ، فإنْ لم تكن محرَجًا من الفكرة، فهذا يعني أنَّك لم تفكِّر في أمرٍ عظيمٍ كفاية»!.

«ساتشي» أسَّس مع شقيقه شركة دعاية من كُبْرَى الشَّركات في العالم، كما أنَّه عمل في بداية حياته في عدَّة شركات إعلانيَّة، وهو من أكثر جامِعي الأعمال الفنيَّة المعاصرة شهرةً، ووُلِد في عائلة ثريَّة، وتابع زيادة الثَّروة وتكديسها، آمن، وحوَّل إيمانَهُ إلى منهج للأفكار النَّاجحة؛ فالفكرة «المُحرِجة»، هي الرَّائجة.

ربما تنطبقُ هذه المقولة على عالم الإعلانات؛ لأنَّ الإعلان يُروِّج لمنتج، مع ذلك لا أجدُ أنَّه من اللَّائق التَّرويج لمنتج بفكرةٍ مُحرجةٍ!.

هناك مقولةٌ أُخْرَى أيضًا تؤكِّد ما قبلها: «لو أردنَا لِما نفعلهُ أنْ يترك أثرًا، حتَّى إنْ كان بسيطًا في العالم الحقيقيِّ، فلا بُدَّ أنْ يكون صادمًا وضخمًا ومثيرًا للسخط».

لذلك، انتشرت الرِّوايات الصَّادمة بأفكارها ولُغتها المُحرجة للقارئ، الفكرةُ ليست فقطْ المُحرجة، بل المُبتذلة، هي الأكثرُ رواجًا الآن في قنوات التَّواصل، وفي الإعلام، حتَّى أنَّ بعض المقالات الصحفيَّة لم تعدْ رصينةً، ولم تعدْ عناوينُها عبارةً منطقيَّةً، مقدِّمة للموضوع الذي يطرقُهُ الكاتب، بل يكتبُ العنوان لجذب القارئ، ثمَّ تجد المقال «سمك.. لبن.. تمر هندي»، لكنَّ الأسوأ هي المَشَاهد المُحرجة، وكأنَّ فكرة المَشهد كلَّما كانت متدنِّيةً وتُسبِّب حرجًا شديدًا لذوي العقل الرَّشيد، تصبحُ أكثر جذبًا للمُتابعين والمُعجبين والمُشاهدين، ومعهم تنفتَّح مغارة علي بابا على مصراعَيها لأولئك العارضين حياتهم وأجسادهم، وكلَّ سخيفٍ ومُحرجٍ.

هل السلوكُ الذي أنتجته تلك المقولات، يكفي ليصبح هو الفكرة العظيمة التي يتبنَّاها أولئك اللاهثُونَ خلف الثَّراء السَّريع، أو الشهرة؟.

الموضوعُ يبدأ دائمًا هناك، ثمَّ يتدفَّق على عالمنا العربيِّ، حتَّى يُغرقنا، كطمي بركانٍ لازبٍ لا يغدرنا، مهمَا بُحَّت أصواتُنا من الشَّكوى، مهما كان غريبًا ومشوِّهًا لحياتنا وعاداتنا.

هكذا تسري حتَّى المقولات الخاطئة التي أنتجتها الذِّهنيَّات التجاريَّة لأغراضٍ ربحيَّةٍ بحتةٍ، تصبح هي الحقيقة لدى معظمنا، دون أنْ يفهم سياقها، وربما لم يقرأها ولم يسمع بها، لكنَّها تسري في أوصال مجتمعاتنا العربيَّة، التي تتلقَّف المنتجات، ليست فقط الاستهلاكيَّة، والمنتجات التكنولوجيَّة، وكلَّ ما تقذفه علينا مصانعُ الغرب والشَّرق، بل حتَّى الأفكار.

الأفكارُ أنتجتْ لنا القَيِّم من الكُتب والمخترعات، والنَّظريَّات العلميَّة والفلسفيَّة، النفسيَّة والاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة، وكثير من المخترعات التي غيَّرت حياتنا، منَّا مَن ينظرُ إليها بامتنانٍ بالغٍ، ومنَّا مَن يُرجِع إليها كلَّ مَا يصيبنا من أمراضٍ جسديَّة واجتماعيَّة؛ وغيرها من الرَّزايا التي تندرج تحت بند المؤامرة، حتَّى كتب تطوير الذَّات التي أصبحت أكثر مبيعًا في عالمنا العربيِّ، هي منتجٌ فكريٌّ غربيٌّ تلقَّفناها بشغف، حتَّى صرفت معظمنا عن قراءة أيٍّ من حقول الفكر والأدب والفلسفة، بل أصبحت هي قرآنه.

ما أدركناه وتعلمناه من الكتاب الكبار من خلال قراءاتنا واطلاعنا على إنتاجهم الفكري والأدبي، أن الكاتب يتعامل مع الأفكار المضيئة، وينتقي لعرضها الكلمات الفصيحة الراقية الرصينة، وينأى عن اللغة السوقية وطرح الأفكار المستهجنة، هكذا كان الكاتب قبل رواج فكرة العولمة، وتدفق وسائل التواصل، وانتشار الإعلام الجديد.

حتَّى الإعلانات عن المنتجات الاستهلاكيَّة كانت متعةً بصريَّةً، عندما كانت شاشة التلفزيون هي الشَّاشة الوحيدة التي نشاهدها، ونتابعُ ما يُعرض عليها بشغفٍ، عندما كانت هناك أوقاتٌ محدَّدةٌ لبثِّ برامج الأخبار، والثَّقافة، والمُتعة، الآن تعدَّدت الشَّاشات، واختلفت معاييرُ التَّعبير عن الأفكار، وأصبحنا نغرقُ في كمٍّ هائلٍ من المَشَاهد المُحرِجَة والمُستَفزَّة، حتَّى أنَّ كثيرين منَّا -رجالً ونساءً- لم يتورَّعُوا عن تبنِّي هذه الفكرة «المُحرِجة» لترك الأثر، هكذا يتوهَّمُون، وهكذا تمضي حياتُهم في كمٍ هائلٍ من الإسفاف والتَّفاهة!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store