Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محمد البلادي

ظُرفاء عرب حول العالم!

A A
* أوَّلُ كتابٍ قرأتُهُ عن نوادر (جحا)، كان خلال المرحلة الابتدائيَّة، وأذكرُ يومها أنَّ الكتابَ أوقعنِي في تساؤلٍ أكبر من سنِّي!.. هل هذا الحكيمُ السَّاذجُ تركيًّا من الأناضول، كما يقولُ الكتابُ، أمْ أنَّه عربيٌّ، كما كنَّا نسمعُ من روايات أهلنا ومعلِّمينا؟! وهل هو -أصلًا- شخصيَّةٌ حقيقيَّةٌ، أمْ أنَّه شخصيَّةٌ وهميَّةٌ، كُتبَ على لسانِهَا كلُّ هذا الكم الهائل من النَّوادر والطَّرائف؟!.

* (جحا العربيُّ) شخصيَّةٌ حقيقيَّةٌ، واسمه (دُجين الفزاري)، ويُقال إنَّه عاش في العصر الأمويِّ، وكنيته أبو الغصن. يقول الشيرازي: «جُحا لقبٌ له، وكان ظريفًا، والذي يُقال فيه مكذوبٌ عليه». وقِيل إنَّ أمُّه كانت خادمةً لأنس بن مالك، وكان الغالبُ عليه السَّماحة، ونقاء السريرة، وأنَّ بعضَ أعدائه وضعُوا عليه حكاياتٍ تناقلها النَّاسُ شفاهةً، فتراكمتْ وكبرتْ حتَّى نَسِي النَّاسُ الأصلَ، وحفظُوا الصَّورةَ الكاريكاتوريَّة. أمَّا النُّسخةُ التركيَّةُ فهي لرجلٍ روميٍّ اسمه (نصر الدين خوجة)، عاشَ وماتَ في مدينة قونية، وله مزارٌ معروفٌ هناك، ومعظمُ الطَّرائف المتناقلة في الأدبِ العالميِّ تُنسبُ إليه.

* الحقيقةُ أنَّ (جحا) بأسمائِهِ وأزمنتِهِ ومجتمعاتِهِ المختلفةِ، هو الشخصيَّةُ التي طوَّرها الضَّميرُ الإنسانيُّ، لتكون النَّاقد السِّياسيَّ، واللِّسانَ المجتمعيَّ الذي يخترقُ كلَّ قيود الرِّقابة، بطريقةٍ مقبولةٍ وذكيَّةٍ. فكلَّما أرادَ أحدٌ انتقادَ وضعٍ معيَّنٍ، لبس قبعةَ جحا كنوعٍ من الاختفاء والتَّلطيف، وربما الحماية لتمرير فكرته. والعجيبُ أنَّ لكلِّ أمَّة نُسختها الخاصَّة من هذا المجنون العاقل، تختلفُ الكُنى والتَّفاصيل، لكنَّ شخصيَّة الحكيم الأحمق، وحماره الأثير لا تتغيَّر، فتجده ملَّا نصر الدين في إيران، وجيوفا في صقلِّية، وغابروفو في بلغاريا، وآرو في يوغسلافيا، وأرتين في أرمينيا. وتاتو في دول أمريكا الجنوبيَّة!.

* العجيبُ أنَّ جحا ليس الشخصيَّة العربيَّة الوحيدة التي لها نُسخ عالميَّة. فالمستشرقُ البريطانيُّ (انجرام) يذكرُ أنَّ بعض القبائل الإفريقيَّة تتحدَّثُ في أدبيَّاتها عن (بو نواسي)، وهو النُّسخة الإفريقيَّة لـ (أبي نواس) الشَّاعر العربيِّ المرح، الذي وصلت نوادرُهُ إلى تلك القبائل شفاهةً، ليس كشاعرٍ، وإنَّما كمحتالٍ ضئيلِ الجسمِ، ظريفِ اللِّسانِ، لديه إجابةٌ لكلِّ سؤال، ومخرج من كلِّ ورطة!. أمَّا أشعبُ الذي روتْ بعضُ الكتب أنَّه عاش في المدينة المنوَّرة إبَّان العصر الأمويِّ، واشتهر بطمعِهِ وتطفلِهِ حتَّى قِيل «أطمع من أشعب»، فقد رُصدتُ منه أكثر من نُسخة في التُّراث الصِّينيِّ والفارسيِّ، واللافت أنَّ بعضَ القرويِّين الفرنسيِّين يتبادلُون حكاياتٍ شخصيَّةٍ متطفلةٍ وظريفةٍ شبيهة بأشعب، وربَّما تكون قد وصلتهم عن طريق الأندلس.

* لا يتوقَّف الأمرُ عند الشخصيَّات الحقيقيَّة، فشخصيَّةٌ أسطوريَّةٌ مثل (علي بابا)، الحطَّاب العربي الفقير، الذي ورد ذكرُهُ في ألف ليلة وليلة كرمزٍ للحظِّ الجيِّدِ، بعد أنْ عثر على أموال (الأربعين حرامي)، مستنسخٌ في ثقافات شعوب القَّارة الهنديَّة، لكن كلصٍّ مكروهٍ. ولعلَّك سمعت مَن يستعمل مصطلح (علي بابا) بمعنى سارق أو حرامي. وتمتدُّ القائمةُ لتشمل السندباد، وعلاء الدين صاحب المصباح، أمَّا (روبنسون كروزو، وطرزان)، فهما النُّسختان الإنجليزيَّة والأمريكيَّة على التَّوالي لـ (حي بن يقظان)، الشخصيَّة التي ابتكرها الفيلسوفُ العربيُّ ابن طفيل!.

* العالمُ أصغرُ ممَّا نتخيَّل. والتُّراثُ الإنسانيُّ متشابكٌ ومتداخلٌ؛ لدرجة يمكن معها توقُّع مشاهدة (جحا) وهو يسير بحمارِهِ فوق سور الصِّين الشَّهير، أو أبو نواس وهو يكتبُ الشِّعر في أدغال إفريقيا، أو حتَّى أشعب، وهو يرتدي ربطة العُنق ويتحدَّث الفرنسيَّة!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store