Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
نبيلة حسني محجوب

أبي قال لي!!

A A
مَن منكم صاغَ كلماتِ أبيه في قصيدةِ شعرٍ؟ مع أنَّ ذاكرتنَا تحتفظُ بكثيرٍ ممَّا قِيل لنا منذُ تفتَّح وعينا على الكلمات، وأدركنا مع مرورِ السَّنوات أنَّ تلك المقولاتِ «حِكَمٌ»، أثبتت صلاحيَّتها في المواقف المختلفة.

كلماتُ الآباءِ والأمَّهاتِ في عفويِّتها وحميميَّتها تُوجِّه وتُحفِّز، تحمِي من الوقوعِ في الخطأ أو الزَّللِ، نستعيدُ بعضها في مواقفَ متشابهةٍ حسب قانون التَّداعي، ومع هذَا يذوي الكثيرُ الكثيرُ، ويتلاشَى كمَا تتلاشَى سنواتُ العمرِ.

الشَّاعرُ المصريُّ الرَّاحلُ، صاحبُ صالونِ الأربعاءِ الشَّهير في نقابةِ الصحفيِّين «الورداني ناصف»، جمعَ تلكَ الحِكَم، وصاغهَا قصيدةً بديعةً بعنوان: (أبي قالَ لي)!!

أبي قالَ لي

وحينَ تفتحُ عينيكَ كلَّ صباحٍ

فَبَسملْ وحَمْدلْ

وقلْ لَا إلَه سِوى اللهِ

هلِّلْ وكبِّرْ

تكنْ دائمًا في صفَا وارتياحِ

وقمْ من سريرِكَ

وارفعْ يديكَ وعينيكَ نحوَ السَّماءِ

وقُلْ -صافِي القلبِ-

أستغفرُ اللهَ مِنْ كلِّ ذنبٍ

ومِن أيِّ ذنبٍ

ومِن كلِّ داءٍ

ويسترسل الشاعر في طرح أقوال أبيه حول أداء واجباته نحو الإله، من وضوءٍ وصلاةٍ، وشكرٍ وتضرع، وأدب السؤال، وثمار الخضوع للإله.. ثم ينتقل به إلى التوجيه الذي وجه به لقمان الحكيم ابنه؛ كي لا يأخذه الكبر، وكيفية التواصل مع الآخرين، هذا التواصل المهم في العلاقات الإنسانية، الذي تاه في ركض الآباء خلف جمع المال، والأراضي، أو المضاربة بالأسهم التي أخذت الثَّروات كالرِّيح، فلمْ يبقَ لهم غيرُ البلاطِ، وكمْ من الأبناءِ تاهَ في طُرقٍ نهايتها الهلاكُ.

أبي قالَ لي

إذَا سِرتَ في الأرضِ

فاضربْ برفقٍ

فإنَّكَ «لنْ تخرقَ الأَرضَ يومًا»

ولنْ تبلغَ الطَّودَ طولًا

ولو جاءَكَ البعضُ كَي يسألوكَ

ويلقُوا عَليكَ كلامًا ثقيلًا

فَرُدَّ عليهمْ بدونِ استياءٍ

وقُلْ دونَ طمسِ الحقيقةِ قولًا

يريحُ القلوبَ... ويبرِي العليلَا

ولوْ حاولَ الشَّرُّ أنْ يحتويِكَ

هذَا الأبُ الحكيمُ لم يكتفِ بذلك، بل يُعلِّم ابنَهُ صنوف البشرِ؛ ليسهل عليه التَّعامل معهم إذَا وُلِّي أمرَهُم:

أبي قالَ لي

إذَا قمتُ في النَّاسِ

أشفقْ عليهِم

فليسُوا -كمَا تلتقيهِمْ- سَوَاء

فمنهُم كَسولٌ، ومنهُم عَجُولٌ

وَمَن تستبدُّ بهِ الكبريَاءُ

ومَن قدْ يحاولُ تجميلَ وجهٍ

ليُخْفِي خلفَ النِّقابِ العنَاءَ

فضمِّدْ جراحَ الذِين استجارُوا

وخفِّفْ عليهِم صنوفَ البلاءِ

أبٌ ينظرُ بعيدًا، له نظرةُ طائرٍ يُحلِّقُ عاليًا يقول لابنِهِ:

تَمهَّلْ وفكَّرْ إذَا أمرُوكَ

وَكُنْ سيفَ حقٍّ إذَا حكَّمُوكَ

وكُنْ مخلصًا لا تزايدْ عليهِمْ

وكُنْ واسعَ الأفقِ، لوْ ناقشُوكَ

لم يَفُت الأبُ مَا قد يصيبُ النَّفسَ من الكبرِ، وما يجنِي صاحبُهَا من غضبِ الربِّ والعبدِ، فيقولُ:

دَعَ الكبرِ لو كنتَ ترجُو الأمَانَ

وسِرْ بالتَّواضعِ حتمًا تُصانُ

وكُنْ في البلايَا ذكيًّا... حَصِيفًا

يُعلِّم ابنَهُ أدبَ الحوارِ، فيقولُ:

إذا ناقشَ النَّاس يومًا بجهلٍ

فلابُدَّ أنْ ترتقِي بالحوارِ

وفي الأبياتِ التَّالية يُعلِّمُ ابنه اختيارَ الأصدقاءِ:

صحابُكَ فتَّشْ عليهِمْ برِفقٍ

وكُنْ حاذقًا في اختيارِ الصَّديقِ

فإمَّا تَرَى فيهِ يومًا عدوًّا

وإمَّا ترَى فيهِ نعمَ الشَّقيقِ

وإيَّاكَ صُحْبة نذلٍ بدربٍ

ولوْ كانَ نورًا يضئُ الطَّريقِ

يُعلِّم ابنه أهمَّ سلوكٍ يفتقده كثيرٌ من النَّاس، وهو الاحتفاظ بالسِّرِّ، فمن لديه قدرةٌ على كتمِ سرِ صديقٍ أو قريبٍ، فهو من خيارِ النَّاس:

بُنيَّ، إذَا مَا أتاكَ امرؤٌ

وأودَعَ عندكَ أسرارَهُ

فحافظْ عليهَا ولَا تُفشِهَا

ولوْ كنتَ تُعلي بهَا قدرَهُ

فلنْ يغفرَ اللهُ سرًّا يُذاعُ

ولوْ قدَّم المرءُ اعتذارَهُ

لم يفت الشَّاعر ذِكر صِلَةِ الرَّحم، التي يتغافلُ عنها البشرُ، فقالَ:

صِل الأهلَ وامددْ جسورَ الصِّلَة

وَلَا تَقطَع الله مَا أوصَلَهُ

وأخيرًا، يُوصيه بالصَّدقةِ:

تصدَّقْ بُنيَّ ففِي البرِّ خيرٌ

وفيهِ رضَا اللهِ والمعُوزِين

وأَغدقْ علَى الصَّامتِينَ اليتامَى

وأهلِ السَّبيلِ معَ الغَارِمِين

وأَطلقْ يديكَ وأنفقْ بِصدقٍ

فيُعطيكَ ربُّكَ دُنَيا وَدِينْ.

رحمَ اللهُ الشَّاعر «الورداني ناصف».

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store