Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
نبيلة حسني محجوب

الكِتَاب.. والقراءة !!

A A
لا أعرفُ كيفَ تخلَّصنا من عادةِ قراءةِ الصُّحف اليوميَّة، مع أنَّنا لم نتخلَّص من هذا التَّوق للعودةِ إليها؛ بالرغم من هذا الكمِّ الهائلِ من الصُّحف والمجلَّات الإلكترونيَّة!.

للقراءةِ الورقيَّةِ نكهتُها، ومتعةُ المرورِ بعينيكَ على العناوين حتَّى الصَّغيرة والهامشيَّة، ربما يشدُّكَ عنوانٌ صغيرٌ تقرأه، يُحدِث فيكَ حالةَ شجنٍ، أو يمنحكَ مساحةً للتَّفكير، أو يُحرِّض رغباتِكَ وقدراتِكَ ومشاعركَ على التدفُّق والجَيَشان، هذه المُتعةُ والرَّاحةُ ليست متاحةً في تقنية الإنترنت.

أُتابعُ مقالاتٍ في العديدِ من الصُّحف على الإنترنت، «أنقر» على اسم الكاتب فقط، وأمضي، إلَّا إذا استوقفنِي عنوانٌ. لا أجدُ لديَّ طولةَ البالِ ولا الصبرَ على التِّجوال البطيءِ بين الصَّفحات، بعد أنْ طغت الصُّورة على الكتابة، والخبر أصبحَ صورةً وصوتًا.

«عندما يُلاحقكَ هاجسُ الخلق، وتقضُّ مضاجعكَ آلامُ الإنسان.. حين تقعُ فريسةَ الغربةِ وأنت بين أهلِكَ، حين تسافرُ دونَ أنْ تغادر مكانكَ، حين تزوركَ الشَّمسُ في يومٍ غائمٍ، فاعلمْ أنَّ حادثًا جَلَلًا واقعٌ لا محالة، وأنَّ وليدًا غضًّا على وشكِ أنْ يرَى النُّورَ».. (اقرأ / إسلام خيَّاط).

ربَّما أصابتنا كلُّ تلك الأعراض في نهدةِ المراهقةِ، أو شرخِ الشَّباب، لكنَّنا لمْ نكنْ نعرفُ أنَّ هناك وليدًا يتشكَّل وتتكوَّن ملامحُهُ على وشكِ البزوغِ، لذلك تخبَّط معظمُنا وتقلَّب بعيدًا، وربَّما تاه بعضُنا حتَّى نهاية العمرِ، بالرغم من أنَّ الكاتبَ الموهوبَ «راصدٌ كبيرٌ له أربعُ عيونٍ، وأنفٌ ضخمٌ، وأذنٌ ثالثةٌ، وحاسَّةٌ سادسةٌ، ولسانٌ واحدٌ لا يحتاجُ له إلَّا للضَّرورة القُصوى». الكتابة هي المتعة الحقيقيَّة للكاتب، وبدون القراءةِ المتنوِّعة والعميقةِ لن يصبحَ كاتبًا مُهمًّا!.

القراءةُ كمساربٍ يفضي بعضُها إلى بعضٍ، فهي تأخذكَ من كِتَابٍ إلى كِتَابٍ، ومن فكرةٍ إلى فكرةٍ، فتتشكَّل الأفكارُ الفريدةُ والمبتكرةُ.

يقول الشاعر أدونيس: «الفكرةُ انتقالٌ، وليست بدءًا مطلقًا، وأنَّها تبادلٌ وتداخلٌ، فللأفكارِ -دائمًا- بذورٌ ما، والشَّاعرُ أو المفكِّرُ يضعُها في نسقٍ خاصٍّ به، يُفكِّكُها يُحلِّلُها يُعارضُها يُبرزُها يهملُها، لكنَّه يظلُّ ضمن نسيجها، كأنَّه لا يخلق فكرةً، وإنَّما يخلقُ علاقةً جديدةً مختلفةً بين الأفكارِ، بين الأشياء».. 144 كلام البدايات.

لم تكنْ القراءةُ متاحةً ولا مباحةً لي على الأقلِّ في ذلك الزَّمن، عندما بدأتُ أتعرَّفُ على الكُتب خارج الكتاب المدرسيِّ، فكان الطريقُ إليها محفوفًا بالمخاطر! الحيلة وسيلتُنا للقراءةِ، ليصفوَ لنا الجوُّ ساعةً بصحبةِ ديوان شعرٍ لنزار قباني، أو روايةٍ لنجيب محفوظ، أو إحسان عبدالقدوس، نخفيهَا في حقائبنَا المدرسيَّة، بعد أنْ نحصلَ عليها من الطَّالبات اللَّاتي كُنَّ يسافرنَ إلى مصرَ وبيروت في الإجازةِ المدرسيَّة، عندما كانَ صيفنَا في ربوعِ الطَّائف هو وجهةُ السَّفر الوحيدة لمعظم المكِّيِّين.

مرَّت سنواتُ العمرِ، وتساقطت عليها براءةُ الطفولةِ، وأحلامُ المراهقةِ، وهمومُ الأمومةِ، فلمْ تعدْ سوى ذِكرى باهتةٍ تطوفُ أحيانًا وسط صخبِ المسؤوليَّات، والاهتمامات، والهموم، فتزوِى في ركنٍ قصيٍّ كطفلٍ يتيمٍ في حفلٍ صاخبٍ!.

لمْ أكنْ أدركُ أنَّ عشقِي للكُتبِ والزَّوايا والكُتَّاب هو بدافعِ الرغبةِ في الكتابةِ، أدركتُ أنَّ هذه الحالة «العشق»؛ هي النداهة التي قادتنِي للسقوطِ في فخِّ الكتابةِ، ومشاعر البهجةِ، وأنا أتجوَّل في معارض الكتبِ؛ لأنَّها تفتحُ مسارب الوعي، وتحفِّز على القراءة.

ربَّما في البدايات هوسُ الاقتناء هو المُسيطر، ثم تصبحُ القراءةُ عادةً، ويصبحُ اقتناءُ الكتبِ حالةً أو مرضًا لا تستطيعُ التخلُّص منه، بل تزدادُ نهمًا كلَّما تقدَّم بك العمر.

ليت الأجيال تدرك أهمية الكتاب، وفائدة القراءة، «ما من كاتب إلا وكانت الكتب زاده وفاكهته وضوء ليله، كان الجاحظ ولعاً بالقراءة في صباه، يبات في دكاكين الوراقين. هل كان الجاحظ سيؤلف ما يقرب من مئة وخمسين كتاباً لو لم يكنْ قرأ أضعاف هذا العدد، واطلع على كنوزها وخفاياها؟!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store