Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
نبيلة حسني محجوب

هل تنسى؟!

A A
عندما تحبُّ أحدًا، ليس بالضرورةِ عشقًا، بل حبًّا في المطلقِ. إنسان -كائنًا مَن كان- أحببتُه من أعماقِ قلبك حبًّا خالصًا دونَ سعي لمصلحةٍ، هل تراودُكَ فكرةُ نسيانِهِ لأقلِّ هفوةٍ؟.

أحيانًا يباغتُكَ أحدُهم بقولِهِ «انْسَ»، وأنتَ تقصُّ عليهِ إساءةَ قريبٍ، أو غدرَ صديقٍ، أو خيانةَ حبيبٍ! تنظرُ إليهِ، كيفَ تختزلُ كلَّ مشاعرِ الألمِ التي تضطربُ في صدرِكَ في كلمةِ «انْسَ»؟!.

هل بالسهولةِ إطلاقُ تلكَ الكلمةِ ككبسولةِ دواءٍ؛ عندما تبتلعُهَا يزولُ ألمُكَ وتتعافَى ممَّا أصابَكَ؟! مع ذلكَ هل يستدعِي الأمرُ، أو الهفوةُ الدَّرجة القُصوَى من العقوبةِ «النِّسيان»! أجلْ.. النِّسيانُ منتهَى القسوةِ، كذلكَ الدَّعوةُ إلى نسيانِ الهفواتِ الصَّغيرةِ هي قسوةٌ على أنفسنَا، على قدرتِنَا على الاحتمالِ، على قلوبنَا المتخمةِ بهفواتِ الآخرِينَ، على علاقتِنَا بذواتِنَا، بأفكارِنَا، بذاكرتِنَا.

لكنَّ النِّسيانَ أصبحَ حالةً عامَّةً، كلُّنا نعانِي من النِّسيانِ، ربَّما بدرجاتٍ متفاوتةٍ، ننسَى الأسماءَ، تواريخَ المناسباتِ مهمَا كانت مهمَّةً، تتداخلُ التَّواريخُ والأوقاتُ، تربكُ حياتَنَا؛ لأنَّنا -ببساطةٍ- نسينَا موعدَ مناسبةٍ، فتعارضتْ مع أُخْرَى، ننسَى أشياءَ كثيرةً جدًّا، لكنْ لا ننسَى عذاباتِ الحياةِ، المآسِي، الغدرَ، الخيانةَ، الإساءةَ التي ينظرُ إليها الآخرُونَ على أنَّها هفوةٌ صغيرةٌ، تستقرُّ في أعماقِ النَّفسِ، ليس -فقطْ- الذَّاكرةُ هي المعنِّيةُ بها، الذَّاكرةُ تدَّخرُ ألمَ الفَقْدِ، وأحزانًا أكبرَ من هفواتِ الآخرِينَ. الفَقْدُ ليسَ موقفًا، أو حالةً يمكنُ إحالتهَا إلى خانةِ النِّسيانِ، فَقْدُ عزيزٍ، ابنٍ، أخٍ، أو فَقْدُ الوَالدَينِ، أو حتَّى فَقْدُ شخصٍ تعرَّفت عليهِ، قابلتهُ ربَّما مرَّة أو مرَّاتٍ معدودةً، لا يمكنُ له أنْ يغادرَ الذَّاكرةَ كما غادرَ الحياةَ!.

ربَّما تجدُ السَّلوى في استحضارِ وجوهِ مَن رحلُوا، أنا أستحضرُ وجهَ أُمِّي وأَبِي، قامتهمَا، رائحتهمَا، وكأنِّي في حضنهمَا آخذُ نفسًا عميقًا، وعيناي تسبحَانِ في بحرٍ من الدُّموعِ، كما هي حالتِي الآنَ وأنَا أكتبُ عنهمَا، أستحضرُ وجهَ أخِي، ابتسامتهُ، قهقهتهُ، جلستهُ، مواقفهُ، كل التَّفاصيلِ المتعلِّقةِ به، رحمَهم اللهُ جميعًا، وأسكنَهم الفردوسَ الأعلَى من الجنَّةِ، لكنَّ بعضَ المواقفِ، وما يُطلقُ عليه البعضُ هفوات صغيرة؛ تستقرُّ في أعمق أعماقِ النَّفسِ، لذلكَ أنتََ لستَ مغرمًا باستدعاءِ ذكرَاهَا أو تعبئةِ ذاكرتكَ بهَا؛ لأنَّها كالرصاصةِ المستقرَّةِ في جسدِكَ، إذَا تحرَّكت تؤلمُكَ أشدَّ الألم.

لا أحد يرغب أن تتخلى ذاكرته عما فيها ولا أبسط الأمور، وهي الأكثر سقوطاً وتسرباً من الذاكرة، ليتنا نستطيع بسط سطوتنا على ذاكرتنا، لاحتفظنا بالكثير من الجميل الذي قدم لنا، وبكل الوجوه التي مرت في حياتنا، كي لا نبدو في منتهى الحرج عندما نلتقي بأحدهم فجأةً، فلا نعرف هل نعرفه أم أنه شبهٌ لمن عرفناه، فتبدو تصرفاتنا وردود أفعالنا ربما محبطة ومعيقة لتفاعله معنا.

ليتنَا لا ننسَى ما قرأنَاهُ، ومَا حفظنَاهُ، وما شاهدنَاهُ، وما كتبنَاهُ، هناكَ مَن يتمتَّع بقدرةٍ فائقةٍ على التذكُّر، وحفظِ ما يقرأهُ بمجرَّد وقوعِ بصرِهِ عليه، تلكَ منحةٌ ربانيَّةٌ، لذلكَ نحنُ بحاجةٍ إلى تحفيزِ الذَّاكرةِ؛ كَي لا تَنْسَى.

النِّسيانُ حالةٌ عامَّةٌ يعانِي منهَا الصِّغارُ والكِبارُ، وأصبحتْ كلمةُ «نسيت»، تباغتكَ كلَّما سألت شابًّا أو طفلًا أو صبيَّةً عن أمرٍ أو شيءٍ أو تكليفٍ، لكنَّ الجميعَ -صغارًا وكبارًا- لم يتمكَّنُوا من نسيانِ صفعةٍ أو جرحٍ، مهمَا مرَّ عليهِ الزَّمانُ، حتَّى من أقربِ المقرَّبين!.

مَن يُهوِّن عليكَ الأمرُ، ويطلبُ منكَ النِّسيانَ، نسيانَ أخطاءِ الآخرِينَ معكَ، هو أيضًا لا يَنْسَى، يحاولُ أنْ يُهوِّنَ لكَ الأمرَ، ويُصلحَ ما أفسدَهُ الآخرُ بقولِهِ «انْسَ»! هل هذِهِ العبارةُ تمحُو وتُبرئُ وتطيِّبُ مكانَ الجرحِ في لحظةٍ؟.

هل تنسَى مَن أساءَ إليكَ؟ هل تنسَى الإساءةَ؟ بعضُ الهفواتِ أو المواقفِ المسيئةِ كالغدرِ والخيانةِ لا تدخلُ الذَّاكرةَ، بل تفتحُ جرحًا عميقًا في القلبِ لا يبرأُ أبدًا!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store