Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محمد البلادي

ومن التوصيل ما قتل!

A A
* غيّرت (كورونا) العديد من السلوكيات والثقافات على كوكب الأرض.. فقد قطعت الجائحة العالمية فينا الكثير من أسباب (التواصل) الإنساني المباشر، وعزّزت بالمقابل ثقافات أخرى، مثل ثقافة (التوصيل)، وأعني توصيل السلع التي تجاوزت مفهوم الخدمة لتصبح أسلوب حياة!.

* لم يعد التوصيل قصراً على الطعام وحده.. كل شيء أصبح من الممكن أن يأتيك قبل أن تقوم من مقامك، وأحياناً قبل أن يرتد إليك طرفك، الملابس، الكتب، الأدوية، البقالة، حتى الخِراف أصبحت تُذبح (أون لاين) وتُنقل لك (مراسم الذبح) على الهواء مباشرة إن رغبت.. بات (التوصيل) أمراً روتينياً معتاداً، وأضحى مندوب التوصيل صديقاً مألوفاً للأسرة.

* هذه السهولة في الحياة ليست أمراً سيئاً؛ حتى وإن كانت مغلفة بـ (سوليفان) رأسمالي مُستنزِف، فقد وفّرت علينا الوقت والجهد، ولبّت معظم حاجاتنا الاستهلاكية.. فضلاً عن دعمها لأصحاب المشاريع الصغيرة، بإيجاد منصّات بيع لهم، ناهيك عن خلقها لفرص عمل كثيرة، حيث توظّف العديد من الأشخاص كسائقين أو موظفين. ولكن..

* لأن لكل شيء وجهين، فإن لتطبيقات التوصيل مخاطرها أيضاً، فقد (قتلت) فينا أموراً كثيرة، أولها قتلها للنشاط الحركي الإنساني الطبيعي عند الكثيرين، وما تبع هذا الخمول والكسل من مشاكل خطيرة على الصحة.. الخصوصية أيضاً من أكبر قتلى ثقافة التوصيل، فهذه التطبيقات تجمع عنك وعن منزلك وحساباتك البنكية الكثير من المعلومات، فضلاً عن تأثيرها القاتل على العلاقات المجتمعية بعدما كرّست فينا الاعتماديّة؛ وقلّلت التفاعل البشري إلى حدوده الدنيا، والأنكى أنه مع قضاء المزيد من الوقت بين جدران المنازل، أصبح الأبناء أقل خبرة في شؤون الحياة، وأقل اهتمامًا بالتواصل مع الآخرين، وربما أكثر تعرضاً للمشاكل النفسية وضعف الشخصية.

* اقتصاديًا.. تهدد ظاهرة التوصيل بقتل الكثير من الوظائف التقليدية، كما أنها تُساهم في زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، فضلاً عن إرهاقها لميزانية الكثير من الأسر، حتى وإن كانت التكلفة تبدو بسيطة، لكن السهولة التي تعمل بها (مجرد ضغطة زر) تهدد بإرهاق ميزانية الأسر، وتغير أساليب معيشتهم الصحية، بتحول الكثيرين نحو طلب الوجبات، بدلاً من إعداد الطعام الصحي بالمنزل!.

* يشير أحد خبراء الاقتصاد العالميين على قناة CNBC قبل أيام إلى خطورة التحول من الاستثمار في المصانع والمتاجر التي تساهم في بناء الاقتصاد والوظائف، إلى بناء المطاعم والمتاجر (السحابية) أو متاجر (الأشباح)، التي تمثل سوقاً موازية وخفية، بعضها بلا عنوان واضح ومعروف، ودون رقيب يحمي حقوق المستهلك والعامل، ويضمن حالة توازن بين الأرباح والعدالة الاجتماعية.

* من أشد الحماقة أن يقف أحد ضد التطور والتيسير على الناس، لكن من المهم أيضاً التأكيد على ضرورة (عقلنة) ظاهرة التوصيل، والاعتدال في استخدامها، والتوعية بمخاطرها، فهي وسيلة ذات نفع عظيم، خصوصاً لأصحاب الظروف الخاصة، لكن استخدامها يجب أن يتم بشكل مسؤول، وبما يضمن عدم تحولها من أداة نقل إلى أداة قتل.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store