Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أحمد عبدالرحمن العرفج

حكاياتي اللُّغوية مع صعوبات اللَّهجة المدينيَّة

الحبر الأصفر

A A
أوَّلُ مرَّةٍ تطأُ قدمايَ «المدينةَ المنيرةَ» -على ساكنِ ثراهَا الصَّلاةُ والسَّلامُ، كانَ ذلكَ في عامِ 1390 - 1970 أتذكَّرُ أنَّنا سكنَّا في منطقةِ تُسمَّى «باب الكومةِ» وفي تلكَ السنةِ سجَّلتُ في الصفِّ الأوَّلِ الابتدائيِّ، ولمْ أكنْ أعرفُ الكثيرَ من الأشياءِ الحديثةِ مثل: «الثَّلاجة والغسَّالة والمكيِّف» كما أنَّني أجهلُ شكلَ بعضِ الفواكهِ مثل: «الموزِ والعنبِ والتُّفاحِ والبرتقالِ»، ولا زلتُ أذكرُ أنَّ أوَّلَ لقاءٍ بينِي وبين الموزةِ أكلتُهَا بقشورِهَا، حينهَا قالَ لِي صديقِي الذِي يدرسُ معِي في السنةِ الأُولَى: لَا يَا أحمدُ؛ يجبُ أنْ «تفسخَ» القشرَ.

في تلكَ المرحلةِ من العمرِ واجهتُ عدَّةَ تحدِّياتٍ لعلَّ من أهمِّهَا تحدِّي فهمِ اللَّهجةِ المدينيَّةِ، ومن أجلِ تحقيقِ هذَا الغرضِ صرتُ أقضِي معظمَ وقتِي معَ ابنِ جيرانِنَا «ممدوح» الذِي معِي في السنةِ نفسِهَا، وبعدَ الخروجِ من المدرسةِ أسكنُ معهُم في المنزلِ نفسِهِ، لحينِ وقتِ النَّومِ.

لقدْ كانتْ أسرتهُ أسرةً لطيفةً، وأمُّ ممدوحٍ سيِّدةٌ فاضلةٌ في منتصفِ الأربعينِ، متدفِّقةَ الجَمَالِ -بكاملِ مشمشِهَا- « كمَا هُو تعبيرُ الشَّاعرِ محمود درويش»، وكانتْ تتحدَّثُ لغةً أفهمُ منهَا القليلَ وأجهلُ الكثيرَ، وقد قالتْ مرَّةً موجِّهةً كلامَهَا إلى ابنِهَا ممدوح: «يَا ممدوح؛ إذَا ندرتْ برَّا الشَّارعِ إلبسْ أنتَ وصاحبُكَ «أحمد» التليكَ، وأنَا برفع البيتَ بلكي يجونَا أوادمُ، وأبوك راحَ ساعةً يعمِّر ويرجعِ وطلبَ منِّي أركِّبُ الملوخيَّةَ، وإذَا خرجتَ أنتَ وصاحبُكَ لا تتحيَّرْ».

الحقيقةُ أنَّني لمْ أفهمْ من هذهِ اللُّغةِ إلَّا القليلَ، وكانَ غرورِي منذُ ذلكَ الوقتِ لا يسمحُ بأنْ أسألَ عن معانِي الكلماتِ، حتَّى لا أكشفَ عن عورةِ جهلِي ولكنْ؛ تحتَ ضغطِ الرغبةِ في المعرفةِ، بدأتُ أستفهمُ من «ممدوح» من بدايةِ النَّصِّ الذي حفظتُهُ وأسألُه قائلًا: «يا ممدوح ما معنَى التليك؟».

ضحكَ ممدوحٌ ضحكةً لا تخلُو من البراءةِ، وقالَ لأمِّهِ: «يا مامَا تصدِّقي أخويَة أحمد ما يعرفُ معنَى التليك..!»

ثمَّ التفتَ إليَّ ممدوحٌ وقال: «تليك يعنِي مداسًا».

فنظرتُ إليهِ وقد تحوَّل وجهِي إلى علامةِ استفهامٍ قائلًا: «ومَا معنَى مداس..؟»

فضحكَ هُو وأمُّهُ ضحكَ طفلَينِ معًا وقالَ ممدوحٌ: «يَا الله مَا تعرف معنَى مداس..! مداسُ يعنِي صندلًا».

فقلتُ لهُ: «إنَّني لمْ أعرفْ الأولَى، ولا الثَّانيةَ فكيفَ أعرفُ الثالثةَ..؟»

حينهَا أخذتْ أمُّه بيدِي وسحبتنِي إلى طرفِ البابِ وأشارتْ إلى التليكِ فقلتُ: «إنَّ هذَا المدعُو صندلًا، نطلقُ عليهِ حذيانًا».

بعدهَا ضحكنَا ثلاثتُنَا من طرافةِ الموقفِ وتعدُّدِ اللَّهجاتِ، ثمَّ بدأتُ استكملُ مهمَّتِي اللُّغويَّةِ من أجلِ التَّعرُّفِ على معجمِ الكلماتِ المدينيَّةِ، وفي هذهِ المرحلةِ صرتُ أكثرَ شجاعةً في طرحِ السُّؤالِ وسجَّلتُ قائمةً من الكلماتِ، وطلبتُ من ممدوح أنْ يشرحَ لي كلَّ كلمةٍ على النحوِ التَّالي:

ندرتُ: خرجتُ، برَّا: خارجُ المنزلِ، التليكُ: الصندلُ، أرفعُ البيتَ: أنظِّفُ البيتَ، بلكِي: يمكنْ، أوادمُ: أشخاصٌ، يعمِّرُ: يشيِّشُ، أُركِّبُ الملوخيَّةَ: أطبخُ الملوخيَّةَ، لا تتحيَّرْ: لا تتأخَّرْ.

حسنًا ماذَا بقِيَ:

بقِيَ القولُ: يا قومُ؛ هذَا فصلٌ من التحدِّياتِ اللُّغويَّةِ التِي واجهتُهَا في أوَّلِ لقاءٍ بينِي وبين الطِّفلِ ممدوح -حفظهَ اللهُ ورعَاهُ- وهناكَ الكثيرُ من القصصِ والتحدِّياتِ والمواقفِ والمقالبِ، التي مرَّتْ عليَّ وعلى أسرتِي -رعاهُم اللهُ- ولعلَّ العمرَ يتَّسعُ حتَّى أكتبَ ما يرتقِي إلى مستوَى الكتابةِ.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store