Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
نبيلة حسني محجوب

اللهم إني صائم!

A A
عندما ينتهِي شهرُ رمضانَ كل عام، نشعرُ بالحزنِ لرحيلهِ، وندعُو اللهَ صادقِينَ أنْ يبلِّغنَا رمضانَ مرَّة ومرَّات. نفرحُ بدخولِ الشهرِ الفضيلِ، هل لأنَّنا في رمضانَ أكثرُ قربًا من اللهِ، أم لأنَّنا لا نزالُ أحياءً؟!.

إنَّمَا الأَعمَالُ بالنَّيَّاتِ، هذَا هو الأمرُ الذي بينكَ وبين اللهِ! لكنْ هناك أمورٌ كثيرةٌ بينكَ وبين اللهِ تتوهُ في خضمِّ الحياةِ ومتطلَّباتهَا! ما بينكَ وبين اللهِ سريٌّ وعميقٌ، «الصَّومُ لِي وَأنَا أجْزِي بِهِ».. هكذَا حال الصَّائمِين!.

تتخلَّصُ النَّفسُ من آلامِهَا، وتضمِّد جراحَهَا، ويصفُو الذهنُ وتسمُو الرُّوحُ وهي تستجيبُ لمقتضياتِ شهرِ رمضانَ، صوم القلبِ والجسدِ، والنَّفسِ واللِّسانِ عن اللِّهوِ والشَّهواتِ والرَّغباتِ، والطَّعامِ والشَّرابِ، واللَّغوِ والنَّميمةِ والغِيبةِ، اتِّصال وتواصل بكلِّ الجوارحِ مع الخالقِ الذي يملكنَا، ولا نملكُ من أمرنَا شيئًا سِوى الانصياعِ والرِّضا، والصَّبرِ والحمدِ والشُّكرِ على ما أخذَ وأعطَى.

الرِّضا والصَّبر من دعائمِ الصَّوم المعنويِّ، لا الماديِّ، الذي يمارسهُ البعضُ للأسفِ، ويخرجُ من رمضانَ كما دخلَ ثقيلًا بأعبائهِ الجسديَّةِ والنَّفسيَّةِ والرُّوحيَّةِ.

هل أنتم صائِمُون؟، ماذَا يعنِي الصَّومُ وبلوغنَا الشهرَ الفضيلَ، ونحنُ لا زلنَا قادرِينَ على صيامِهِ وقيامهِ؟، لا أريدُ أنْ أُكثرَ من علاماتِ الاستفهامِ، أو طرحِ الأسئلةِ، لأنِّي أعلمُ أنَّكم صائِمُون، ولا أُمارسُ الوصايةَ، ولكنَّها أفكارٌ تداعتْ؛ فأحببتُ أنْ أخطَّها كما هي، ربَّما لأقسرَ نفسِي على الاستجابةِ لهذهِ المعانِي، وأنَّ شهرَ رمضانَ لا يعنِي الصَّومَ عن الطَّعامِ والشَّرابِ فقط، بل الصَّوم عن كلِّ ما يحيكُ في النَّفسِ، ويخشَى المرءُ أنْ يطَّلعَ عليهِ غيرُه، فكيفَ بالذي يعلمُ السرَّ وأخفَى؟.

الموظَّف الذي ينامُ ملءَ جفنيَهِ حتَّى ينتصفَ النهارُ؛ لأنَّه صائمٌ، بينمَا مصالحُ خلقِ اللهِ معطَّلةٌ!.

مَن يظلم أهلَه أو يحرمَهم من حبِّهِ وعطفهِ ورعايتهِ!.

مَن لا يشعرُ بقريبهِ المريضِ أو الفقيرِ أو جارهِ المحتاجِ!.

مَن يأكلُ حقوقَ الآخرِينَ ويستولِي على ما ليس له بحقٍّ، وبطرقٍ ملتويةٍ أو غيرِ مشروعةٍ!.

الفاسدُ، والمفسدُ، والغشَّاشُ، والخائنُ، والذين يستحلُّون لأنفسهم أخذَ حقوقِ الآخرِين، مستغلِّين مناصبهم، أو مستغلِّين حاجةَ المواطنِين إلى خدماتهم التموينيَّةِ أو الطبيَّةِ أو الوظيفيَّةِ، والذين يقتطعُون لهم نصيبًا من مخصَّصات المشروعات، أو من مخصَّصات الفقراءِ أو الأيتامِ، والمعاقِين والضعفاءِ، والنِّساءِ والأراملِ، والمطلَّقاتِ والزَّوجاتِ؟!.. لكلِّ هؤلاء: هل أنتمْ صائمُون، أم أنَّكم لا ينالكم من الصَّومِ غير الجوعِ والعطشِ؟!.

شهرُ الصِّيام مدرسةٌ لتربيةِ النَّفسِ على سموِّ الأخلاقِ، على الطَّاعةِ والقناعةِ، والصَّبرِ والتَّسامحِ، وتنميةِ الحواسِّ على تلمُّس حاجةِ الآخرِين. يقولُ د. الأحمدي أبوالنور أستاذُ الحديث: «رمضانُ شهرُ التَّطبيقِ العمليِّ لسلوكِ المسلمِ لما شرعتْ له هذه العبادة، ولما أنزلَ اللهُ له من قرآنٍ».

قبلَ أنْ نستقبلَ رمضانَ، لابُدَّ من عقدِ النيَّة على التَّرقي درجاتٍ في مراتبِ الإنسانيَّةِ. النوايَا الجديرة باحتلالِ الصدورِ في رمضانَ هي نوايَا الخيرِ، وبفضلِ اللهِ يفيضُ الخيرُ في مجتمعنَا، ويزدادُ عددُ المحسنِين في كلِّ مجال، لذلكَ يشعرُ المقيمُ والمعتمرُ والزَّائرُ بفيضِ الخيرِ في كلِّ مكانٍ.

الإنسانيَّةُ حسب إيمانويل كانط: «هدفُ الأخلاقِ وأساسُ فكرةِ الواجبِ».

يرتبطُ مفهومُ الإنسانيةِ فلسفياً بقِيم مثل: «الإحسان، الإيثار، الاحترام، التعاطف، والأخوة وقبول الآخر، والتفاهم وغيرها، كما تعتبر من الالتزامات الأخلاقية التي ترشد الإنسان إلى كيفية التعامل مع بني جنسه»، ودينياً بقيم الصدق والأمانة، الإخلاص في العمل، الإحسان إلى الآخرين، بالكلمة الطيبة والابتسامة، فهما صدقة، بكل ما سبق يتحقق معنى الصوم، وتنحصر به الإجابة: «اللهم إني صائم»!.

أخيرًا: اللهمَّ إنِّي صائمٌ حقًّا وصدقًا من أعماقِ القلبِ قولًا وعملًا.

كلُّ رمضانَ وأنتمْ جميعًا بخيرٍ!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store