Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
نبيلة حسني محجوب

عشرةُ الخياطين!

A A
كانَ لأهلِ مكَّة تقسيمٌ جميلٌ لأيَّامِ الشهرِ الفضيلِ؛ نظرًا للعاداتِ التي اعتادَ عليهَا أهلُ مكَّة المكرَّمة ومَن تبعهَا من مدنِ المنطقةِ الغربيَّةِ، ومَن جاورهُم من المجاورِين والوافدِين. قسَّمُوا شهرَ رمضانَ إلى ثلاثةِ عشراتٍ: عشرة لـ"اللَّحامِين"، وعشرة لـ"القمَّاشِين"، وعشرة لـ"الخيَّاطِين"، مع حرصِهم على القيامِ بالصيامِ وأداءِ الصلواتِ في المسجدِ الحرامِ، إلَّا أنَّ اهتماماتِهم بحسبِ أولوياتِهم، ففي العشرةِ الأُولى من رمضانَ، يكونُ الاهتمامُ بالطَّعام هو محورُ حياتِهم، لتغيُّر عاداتِهم اليوميَّة بالنسبةِ للوجباتِ الثلاثِ، وتقلُّصها إلى وجبتَين فقطْ؛ فشراءُ اللَّحمةِ بشكلٍ يوميٍّ أمرٌ ضروريٌّ؛ لعدمِ وجودِ ثلاجاتٍ في ذلكَ الزَّمانِ، ولأنَّ "الشوربةَ" و"السمبوسكَ" طعامُ إفطارِهم، واللَّحمة تُعتبرُ مكوِّنًا أساسًا. اللَّحمةُ الوفيرةُ في كليهمَا بشكلٍ يوميٍّ، حيثُ لم تكنْ هناك ابتكاراتُ حشواتِ: الجبنِ والخضارِ، أو الفراخِ، أو سمبوسكِ الفرن، وغيرها، كذلكَ اعتمادهم على شوربةِ الحبِّ الذي يتمُّ جرشهُ في شعبانَ، وطبخهُ بطريقةٍ لا تتقنهَا غيرُ المرأةِ المكيَّة، ليسَ انحيازًا ولا عنصريَّة، ولكنْ هذهِ هي الحقيقةُ، وأوردُ ما ذكرهُ محمد عمر رفيع في كتابهِ: "مكَّة في القرنِ الرابعِ الهجريِّ"، "وممَّا يعتادُ المكيُّون صنعَهُ في شهرِ رمضانَ السمبوسك.."، ويفصِّل في طريقةِ صُنعِ عجينِها وحشوتِها.

ثم تأتِي العشرةُ الثَّانية، التي يبدأُ فيها الاستعدادُ للعيدِ، بشراءِ الأقمشةِ، حيثُ لمْ يكنْ يتوفَّر الجاهزُ الذي يملأُ الأسواقَ الآنَ، وواجهاتِ المحلاتِ؛ لأنَّ كسوةَ العيدِ تُعتبرُ من أساسيَّاتِ العاداتِ الرمضانيَّةِ، عن ذلكَ يتحدَّث رفيعٌ قائلًا: "وكانَ لأهلِ مكَّة اهتمامٌ واعتناءٌ تامٌّ بتجميلِ ألبسةِ أطفالِهم في عيدِ الفطرِ؛ للمباهاةِ، وإظهارِ النعمةِ، والسخاءِ في الصرفِ"، يفصِّل بعدَ ذلكَ في وصفِ ملابسِ عليةِ القومِ والنساءِ.

العشرةُ الأخيرةُ من الشهرِ الفضيلِ للخيَّاطِين، لقياسِ الملابسِ أو استلامهَا، هذَا لا يعنِي أنَّهم يُفرِّطُون في واجباتِهم الدينيَّةِ، من فروضٍ ونوافلَ وصيامٍ وقيامٍ، لكنَّ كلَّ هذَا لا يثنيهِم عن الاهتمامِ بالاستعدادِ للعيدِ واستقبالهِ بمَا يليقُ بهِ من حفاوةٍ، واستعدادٍ لاستقبالِ المعيِّدِين والمهنِّئِين من الأهلِ والأصدقاءِ والجيرانِ.

اليوم مع التغيرات الكبيرة التي غيرت كثيراً من أمور حياتنا، لازالت العادات الأصيلة، لم تندثر، بل تطورت، لكن الفرق، أنَّ تسوق النساء يبدأ من شعبان، ولا ينتهي بانتهاء رمضان، كذلك أصبحت الأسرة كلها في المراكز التجارية للتسوق والفسحة وقضاء الوقت، خصوصاً مع الإجازة التي توافق العشرة الأخيرة من رمضان، حيث تستغل في اقتناء احتياجات الأطفال، والمنزل.

لا شكَّ بأنَّ النساءَ أكثرُ وجودًا في الأسواقِ في شهرِ رمضانَ؛ لأنَّ المرأةَ السعوديَّةَ هي المسؤولةُ عن مظهرِ بيتِها في العيدِ، وعن مستوَى الضيافةِ، وعن مظهرِ الزَّوجِ والأبناءِ الذين يريدُون كلَّ شيءٍ ولا يكتفُون؛ هذَا الطقمُ لأوَّلِ يومٍ، وهذَا للفطورِ عند ستِّي، وهذا للغدَا في بيتِ سيدِي، وهذَا للعشَا في بيتِ خالِي، وذاكَ للخرجةِ مع أصحابِي وللملاهِي أو للبحرِ، أو لحفلِ عيدِ ميلادِ ولدِ بنتِ خالِ جدِّي!.

ماذَا لو قصَّرت المرأةُ/ الأمُّ في إدخالِ الفرحةِ على قلوبِ صغارِها، حتَّى الكبار منهُم؟! فهي ربَّما ترافقهُم حرصًا منهَا عليهِم، أو لتحجيمِ اندفاعاتِهم ومساعدتهم على شراءِ ما يحتاجُونَه، وعلى الاختيارِ الصحيحِ.

مسؤوليَّاتُ المرأةِ كربَّةِ أسرةٍ يُحتِّمُ عليهَا التسوُّق لترضِي جميعَ الأطرافِ، بمَا فيهم الزَّوجُ الذي يعتمدُ عليهَا في كلِّ شيءٍ، وربَّما أوكلَ لهَا شراءَ ملابسِهَِ، وكلَّ ما يلزمُ البيتَ والمطبخَ، طالمَا أنَّ لديهَا سائقًا، فقدْ نفضَ يدَهُ من كلِّ المسؤوليَّاتِ، وطوَّقَ بهَا عنقَ المرأةِ المسكينةِ التي تُتَّهمُ بالتبذيرِ والإسرافِ، والتجوُّلِ في الأسواقِ وتُنتقدُ.

ربَّما أسْرَفت بعضُ النساءِ في التسوُّق، ولكنِّي لم أسرفْ في الدفاعِ عن تسوُّق النساءِ في عشرةِ الخيَّاطين، أو عشرةِ المراكزِ التجاريَّة، التي أصبحتْ تواصلَ الليلَ بالنهارِ!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store