Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أحمد عبدالرحمن العرفج

الإمعان في استحضار «طعم زمان»!

الحبر الأصفر

A A
مِن نِعَم الله عَليَّ، أَنَّني عِشتُ فِي بِيئَاتٍ مُختَلِفَة، وعَاصَرتُ وتَعلَّمتُ مِن طَائفةٍ كَبيرة مِن كِبَارِ السِّنّ، الذين عَصَرَتْهُم الحَيَاة، فصَنعُوا مِنهَا العَصير الذي قَدَّموه لِي، فشَربته وازدَدتُ نُضجاً ومَعرِفَة..!

إنَّ أَبرَز مَا تَعلّمتُه مِن الجِيل السَّابق، هو فَنّ الاستمتَاع بأدَاء الأشيَاء، والتَّمتُّع بمُمَارسة القيَام بِهَا.. قَد يَكون هَذا الكَلَام صَعب الفَهم عَلَى البَعض، مَا لَم أُوضِّحه بالشَّوَاهِد، لِذَلك دَعوني أَضرب الأَمثِلَة:

نَسمَع كَثيراً عَن المَطبَخ، وكُتب الطَّبخ، و»طَبخَ يَطبخُ طَبْخاً»، وهَذا يَدلُّ عَلَى أَنَّ المَطبَخ؛ مَكانٌ لإعدَاد الطَّعَام، ولَيس لفَنِّ إعدَاد الطَّعَام..!

إنَّ أَهلنَا لَم يَكونوا يُسمُّون المُطبخ بهَذا الاسم، بَل كَان اسمه «المُركَّب»، مِمَّا يَدلُّ عَلَى فَنّ إعدَاد الطَّعَام، وتَركيب المُكوِّنات فَوق بَعضهَا، ورَحِمَ الله الخَالَة «فَتُّو»، جَارتنَا فِي المَدينَة المُنيرَة، التي كَانَت تَقول لِي: (تَعَالَ يَا وَلدي اتغَدّى عندنَا.. احنَا اليَوم مركِّبين بَامية)، وحِين أَقول لَهَا: (إنَّني أُحبُّ الملُوخيَّة)، كَانت تَقول لِي: (حَاضَر يَا وَلدي، بُكْرَه أركِّب ملُوخيَّة عَشَانَك)..!

هَذا فِي جَانب الأَكْل، أَمَّا فِي جَانب الشَّرَاب، فإنَّ الشَّاي كَان يُطعَّم بالنِّعنَاع، والمَاء كَان يُقدَّم مُعطَّراً بمَاء الوَرد، ولَا زِلتُ أَتذكَّر أَنَّ الشِّيشَة، كَانت تُسمَّى «التَّعميرَة»، لأنَّ إعدَادهَا يَتم عَبر طَبقَات، وكَأنَّها «عِمَارَة».. أَقول هَذا، رَغم خِلَافي الكَبير مَع السيِّدة «تَعميرَة»..!

أَمَّا فِي جَانِب الفَنّ، فقَد كَانت الحَفلَات مَيّتة، لِذَلك كَان يُقَال: إنَّ محمد عبده «سيُحيي حَفل اللَّيلَة»، مِمَّا يَدلُّ عَلَى أَنسَنة الأَعمَال، ومُمَارستهَا بمُتعةٍ وحُبّ..!

كَمَا أَنَّ الأَعرَاس لَم تَكُن تُسمَّى أَعرَاساً، بَل «أَفرَاحاً»، وكَلِمَة فَرَح، تُخرِج الفِعل مِن كَونه فِعلاً رُوتينيًّا وعَادياً، إلَى كَونه فِعلاً مِن أَفعَال السَّعَادَة والسّرور..!

أَمَّا مَا يَخصُّ المُستَقبل، فلَم نَكُن نَقول: «نُخطِّط للمَستقبَل»، بَل كُنَّا نَقول: «نَبني المُستقبَل»، وفِعل البِنَاء يَدلُّ عَلَى تَحضير الأَدوَات وتَجهيزهَا، مِمَّا يُعطي إشَارَة إلَى أَنَّ المُستقبَل؛ لَا يَحتَاج فَقَط إلَى تَخطيط، بَل إلَى أَدوَات وتَجهيزَات.

حَسنًا.. مَاذا بَقي؟!

بَقي القَول: أَتمنَّى أَنْ نُمارِس الأَشيَاء بحُب، فطَالَمَا أَنتَ مُجبَر عَلَى مُمَارستهَا، حَاول أَنْ تُمَارسها بحُبّ، وستَجد أَنَّ الأَشيَاء حِين تَقوم بِهَا بسَعَادَة، ستَكون أَجمَل وأَكمَل وأَعدَل.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store