Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

التوريث الثقافي: الأمير محمد بن عبد القادر الجزائري

A A
الكثير من الشخصيات صنعت تاريخنا العربي الجمعي والحضاري ولكن أكلتها دوائر النسيان. بل إن هناك من احترقت فقط لأنها ابنة شخصية مرموقة غطت على جهدها ونضالها وعلمها. من بين هذه الشخصيات، العالم والمؤرخ والعسكري محمد باشا أو محمد بن عبد القادر بن محي الدين الحسيني الجزائري الذي ولد بقرية القيطنة، معسكر، مسقط رأس والده الأمير عبد القادر، في سنة 1256 هـ الموافق لـ 1840م، وتوفي بالآستانة في سنة 1331 الموافق لـ 1913 وتعلم بها في مراحل حياته الأولى، فأخذ منها المفاهيم الدينية المبدئية بما فيها الانتماءات الصوفية القادرية التي كانت تنتسب لها العائلة. وبعد نفي والده إلى طولون هاجر برفقة العائلة إلى هناك وعاش كل مراحل اعتقال والده وتحسسها وهو في نعومة أظافره. ومن ثمة الهجرة إلى تركيا بعد أن أطلق إمبراطور فرنسا نابليون الثالث سراح الأمير عبد القادر الذي استقر به المقام في النهاية في سوريا التي مكث فيها مع والده حتى أصبح من أحد أعيانها. حيث التحق بالجيش العثماني في فيالقه وهو أمر على ما يبدو لم يرق لوالده كثيراً خصوصاً رفضه الشديد لهيمنة تركيا على بلاد الشام الأمرالذي لم يشجعه على البقاء في تركيا ففضل عليها دمشق. وتدرج محمد باشا حتى تحصل على رتبة فريق التي كانت هدفه الأسمى. ونظراً لعكوفه مدة طويلة مع والده الأميرعبد القادر، فقد جمع محمد بن عبد القادر وثائق كثيرة تهم حياة والده فدوّنها وجمعها، فكتب الصيغة الأولى من كتابه تحفة الزائر قبل أن تسرق منه كما يقول هو نفسه في المقدمة. ويعيد كتابه من ذكرياته بشكل مقارب للصيغة الأولى، لكننا نفترض أن الكثير من الوثائق والحقائق تكون قد ضاعت مع الكتابة المسروقة. فهو قد فكر في كتابة تاريخ الأمير في وقت مبكر نسبياً، أي في حياة والده. وبتكليف من هذا الأخير، في سنة ١٨٧١، بدأ محمد باشا في كتابة سيرة والده، وعكف على تدوين كل تفاصيلها كما رآها أو كما عاشها أو رويت له. فجمع ما تفرق منها، ولم ينهها إلا في وقت لاحق. وسماها (تحفة الزائر في مآثر الأمير عبد القادر وأخبار الجزائر) في جزءين، الأول في سيرة الأمير عبد القادر السيفية، في حروبه مع الفرنسيين، والثاني سيرته العلمية. وهو كتاب يفيد المؤرخ في معلوماته كما يقول مقدم الكتاب وشارحه الدكتور ممدوح حقي في طبعته الثانية ١٩٦٤. والذي يقدم عنه فكرة تحتاج الى إعادة نظر لأن بها بعض التسرع في الأحكام : إن ما في الكتاب من بساطة وسرد يساعد المؤرخ على التقاط وجهة النظر العربية من غير مشقة. لم يكن المؤلف يعرف من اللغات إلا العربية ولم يدرس سوى علوم الدين ولم يطلع على العلوم العصرية على شيء. وكيف نريد من ابن القرن التاسع عشر أن يلم بعلوم القرن العشرين وهو لم يعشها. وكيف نتطلب من رجل قضى أكثر حياته في الجهاد أن يتفرغ لما يتفرغ له الخلي المسالم المرهف؟ وهذا الحكم السهل يدعو الى تساؤلات كثيرة وبعض الغرابة. أولاً بالنسبة للغات، فقد كان محمد باشا متقناً للغة العربية في معناها الأكثر كلاسيكية يتجلى ذلك من الطريقة السجعية التي كتب بها. ولكن من الصعب التوقف عند هذه اللغة وهو الذي رافق والده منذ صغره وعاش في منفاه الفرنسي مدة خمس سنوات وهو يحيل في هذا الكتاب الى العديد من المراجع الفرنسية ومنها كتاب بلامار الذي حاور الأمير في حياته. بل يصرح في مقدمة كتابه أنه استعان بالكتب الفرنسية وقام بترجمتها. ومن المستغرب أن يصل عسكري الى رتبة فريق وهو لا يعرف التركية. فمحمد بن عبد القادر كان يتقن على الأقل ثلاث لغات وهي العربية والتركية والفرنسية. وعلى الرغم من شح المعلومات الخاصة بتكوينه إلا انه من الطبيعي أن يكون عسكري مثله وصل الى رتبة فريق قد اطلع على النظم العسكرية الأوروبية وساعدته في ذلك ثقافته ولغاته المتعددة. فهناك تسرع كبير في الأحكام للأستاذ ممدوح حقي الذي لعب دوراً مهماً في الحفاظ على ميراث الأمير عبد القادر وأبنائه بنشره وشرحه.

ولمحمد باشا مؤلفات أخرى لها علاقة حية بما كان والده يمارسه حياتياً وكتابياً، مثلاً اهتمامه بالجياد والسهر عليها مثل (عقد الأجياد في الصافنات الجياد)، ومختصره (نخبة عقد الأجياد) كلاهما في الخيل ومحاسنها وما قيل فيها، وقد طبع في سوريا، وأعيدت طباعته في المغرب في السنوات الأخيرة، و(مجموع ثلاث رسائل) ما تزال مخطوطة الى اليوم: الأولى (ذكرى ذوي الفضل في مطابقة أركان الإسلام للعقل) والثانية (كشف النقاب عن أسرار الاحتجاب) والثالثة (الفاروق والترياق في تعدد الزوجات والطلاق) .

العودة إلى هذه الشخصيات هي عودة الى الذاكرة الجمعية التي بدأت تنطفىء في زماننا مع انها وجدت توازناتها التاريخية لتنتج مادتها الفكرية والعلمية وتسم زمانها ثقافيا وإنسانياً.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store