Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

هل جربت يوماً فراق حيوان صديق؟!

A A
هل جربت يوماً لوعة فراق حيوان أليف؟ هل جربت أن تودع حيواناً قضيت معه أو قضى معك.. في بيتك أو مزرعتك.. سنوات طويلة؟!. بالأمس فقط جربتها، ووجدتني أبكي كلبي الذي كنت أعتبره أجمل وأوفى ما اقتنيت!.

والواقع أن المكتبة العربية تكاد تخلو من نصوص أدبية، تصف لوعة الفراق لحيوان، رغم اهتمام العرب قديماً وحديثاً بتربية الخيول والطيور والكلاب، ورغم كثرة القصائد التي تتناول مديح الحيوانات.. ولأن ذلك كذلك فقد خفف عني، ورفع عني الحرج أستاذنا عباس محمود العقاد، وهو يقول في رثاء كلبه (بيجو):

«حزناً على بيجو تفيض الدموعْ.. حزناً على بيجو تثور الضلوع!، حزناً عليه جهدَ ما أستطيع.. وإن حزناً بعد ذاك الوَلوع.. والله -يابيجو- لحزن وجيع!»

وكنت قد نشأت في بيئة ريفية جميلة، تحفز على الألفة مع الطيور والحيوانات، خاصة مع الكلاب، التي بات لا غنى عنها في الحراسة ونحو ذلك، ناهيك عن ترسيخ قيم الوفاء في نفوس الصغار والكبار.

كنت طفلاً، حين كان كلبنا لا يفارق أبي لحظة واحدة، فإذا ذهب لصديق أو قريب ذهب معه، وإن لبّى دعوة لحفل زواج، أَوصَله للمكان، وعاد للمنزل، قبل أن يسارع مرة أخرى لاصطحابه في طريق العودة.

وقد بلغ من كلبنا الوفي، أن ضبط إيقاع حياته على مواعيد القطارات التي تستخدمها شقيقاتي البنات في رحلة السفر إلى المدرسة الثانوية، ورحلة العودة من مدينة «منوف»!، فلما سألت عن كيفية معرفته بموعد القطار العائد من تلك المدينة التي تبعد عن بيتنا تحديداً بنحو عشرة كيلومترات، قيل لي إنها حاسة الشم!. وذات يوم وحين كان يصطحب إحدى أخواتي في الطريق من محطة القطار الى المنزل، لم ينتبه للقطار «المقابل» فلقي مصرعه، وعادت أختي تبكي بشدة!.

يعلم الله، وهو على ما أقول وما أسطره اليوم شهيد، أن شعوراً انتابني أمس الأول، بأنني سأودع كلبي «بوتشي» فسارعت الى كتب الفقه أبحث عن جواز الدعاء للحيوان، قبل أن أتأمل «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»، «عذبت امرأة في هرة، سجنتها، لا هي سقتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض» . وجاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يمشى فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها، ثم خرج فإذا بكلب يلهث، يأكل الثرى من شدة العطش قال: لقد بلغ هذا الكلب مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقي، فسقى الكلب ! فشكر الله له، فغفر له».

ثم انتقلت للبحث عن قصائد وحكايات للشعراء والأدباء عن فراق ما يقتنونه من حيوانات قبل أن يخبرني ابني أمس مساء بوفاة «بوتشي»

وفيما كنا نتحدث عن مواقفه ومآثره، وتصور وضع بيتنا جمالياً وأمنياً بعد رحيله، رحت أردد ما قاله العقاد في رثاء كلبه: حزناً عليه كلما لاح لي..بالليل في ناحية المنزل.مسامري حيناً ومستقبلي..وسابقي حيناً إلى مدخلي.. كأنه يعلم وقت الرجوع!

لقد بلغ من وفاء «بوتشي» كما يقول حارسنا الأمين «رجب» أنه كان يعرف موعد وصولي الى أرض مصر، من نباح معين وحركات محددة، لا يفعلها الا إذا وصلت «مطار القاهرة»!

رحت أكمل قصيدة العقاد، التي تفيض ألماً ولوعة: حزني عليه كلما عزني..صدقُ ذوي الألباب والألسن!، وكلما فوجئت في مأمني، وكلما اطمأننت في مسكني، مستغنياً أو غانياً بالقنوع!

وكلما ناديته ناسياً: بيجو! ولم أبصر به آتياً..مداعباً مبتهجاً صاغياً! قد أصبح البيت إذن خاوياً.. لا من صدى فيه ولا من سميع!.

ترددت كثيراً في الكتابة عن فراق حيوان أليف قبل أن تقع عيني على كلمات كتبها العقاد في مثل هذا الوقت تقريباً قبل أعوام، ويقول فيها: «صور كثيرة بقيت فى خلدى من الإسكندرية كأنها صفحات مقسمة من معارض الفن والحياة والتاريخ، وستبقى ما قُدّر لها البقاء وسيكون من أبقاها وأولاها بالبقاء صورة واحدة لمخلوق ضعيف أليف يعرف الوفاء ويحق له الوفاء وهو صديقى «بيجو» الذى فقدناه هناك!!

وإنى لأدعوه «صديقى» ولا أذكره باسم فصيلته التى ألصق بها الناس ما ألصقوا به من مسبة وهوان، فإن الناس قد أثبتوا فى تاريخهم أنهم أجهل المخلوقات بصناعة التبجيل وأجهلها كذلك بصناعة التحقير!! فكم من مبجل فيهم ولاحق له فى أكثر من العصا، وكم من محقر بينهم ولا ظلم فى الدنيا كظلمه بالازدراء والاحتقار!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store