Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

العيون الخضر.. الصداعات.. وردة المشروع الحمراء

A A
أعادتني «العيون الخضر» للشاعر الأسباني «جوستافو فوادولفو بكر» لوردة «المشروع» الحمراء، أجمل ما شاهدت وشممت طيلة عمري من ورد!، أما العيون الخضر فهي تلك القصة القصيرة التي ترجمها الدكتور محمود علي مكي، وأما «المشروع» فهو ذلك المصرف المائي الذي يمشي خلف قرى مركزي أشمون ومنوف، بمحافظة المنوفية المصرية.

كنت مستلقيًا على «الصداعات» تلك الكتلة الإسمنتية الصلبة التي بنتها هيئة السكك الحديدية قبل عقود، بحيث تستخدم في امتصاص قوة قطار البضاعة، كي يرتد مرة أخرى إلى المحطة.

كانت الشمس تميل إلى الغروب، ونسمات الهواء الخفيفة تأتي برائحة الحقول من جهة الشرق، ورائحة زهور البرتقال من ناحية الغرب، حينما فاحت رائحة الوردة، وكأنما انسكبت قارورة عطر فرنسية ضخمة في مياه المشروع!.

قفزت من فوق الصداعات راكضًا نحو «الماسورة» ذات القطر الضخم الذي يسمح للمهرة بالسير عليها مشيًا، أو الحبو فوقها حتى تصل الى الجهة الثانية حيث الطريق الواسع، والفاصل بين حدائق البرتقال وبين المشروع الموازي لخط سير القطارات!.

استعنت بعود طويل من «البوص» خدش إصبعي وسال دمي، فربطته بمنديل قماشي كان معي، ويبدو أن لون الدم الأحمر، حفزني أكثر لمطاردة أو استمالة الوردة نحوي، فيما تواصل هي طريقها سابحة فوق الطحالب، وبنفس وتيرة جريان مياه المشروع!.

كنت أدرك أن حواف المشروع مهدمة، وقد تغوص قدماي أثناء محايلة الوردة للمجيء نحوي، بينما هي تمضي غير عابئة، مخلفة رائحتها الجميلة التي أنستني جرحي، وتملكت من صدري تمامًا!.

أواه! أيتها الوردة الجميلة، ترفّقي بي وقفي وتعالى.. كنت أناجيها وأنا أتمتم بآيات من الذكر الحكيم، فقد تذكرت «العيون الخضر» عندما كانت الوردة تقترب من «البدالة» الإسمنتية التي تنقل الماء من «عزبة الحساينة» إلى حقول المزارعين عبر «مسقة حنفي»!

في تلك اللحظة تذكرت، «فرناندو» بطل «العيون الخضر»، وقد أصاب ظبيًا جميلًا في ساقه، ورغم أن جراحه أثقلته، فقد ظل يركض، فيما يأمر هو كبير الصيادين العجوز «أنيجو» بأن يطلق الأبواق، ومعها الكلاب، وأن يحز الصيادون جنوب الجياد، حتى يلحقوا بالظبي الجريح الذي كان يتجه صوب «عين الحور»! وهنا صاح الصياد العجوز: كفى! كفى! ليتوقف الجميع! فقد قضى الله لذلك الصيد أن يفلت من أيدينا، ولا قبل لنا بأن ندفع قضاء الله.

ويرد «فرناندو» ثائرًا: والله إني لمؤثر أن أفقد ما ملكت يدي من مال وجاه، وأن تذهب شياطين الجحيم بروحي، على أن يلوذ هذا الظبي مني بالفرار!

ثم همز «فرناندو» فرسه، فانطلق به كأنه إعصار، وظل «انيجو» ومن معه جامدين يتبعون سيدهم الفتى بأنظارهم حتى حجبته عنهم ربوة التفَّت حولها الحشائش!.

حاولت إبعاد «العيون الخضر» من ذاكرتي، وواصلت مطاردة الوردة الجميلة، حتى وصلت الى مكان قضى فيه ابن عمي في حادث سيارة عندما كنت طفلًا وكأنما آثرت تحية روحه الطاهرة!، الآن بدأ القلق يتسرب الى نفسي، مخافة أن يكون الأمر مجرد حلم، ولقد كان يمكن أن يكون المشهد كافيًا لأن أترك الوردة تشق طريقها وأعود، لولا أنني لمحت من بعيد وجه فتاة قادمة نحوي من جهة «البيت الأحمر» وهو البيت الذي كان فريدًا وجميلًا على الطريق المؤدي الى كمشوش، عبر شما وعزبة العرب!.

عند هذا الحد، وجدتني أعود لما حدث مع «فرناندو» في «العيون الخضر».. لقد عاد مكتئبًا لا ينطق بكلمة، حتى جاء «انيجو» ليسأله: ما بالك! قال: بربك خبرني وأنت خير من يعرف كل ركن في تلك المنطقة: ألم يقع بصرك على فتاة تعيش في كهوف الجبل أو بين صخراته؟!، ولم يتمالك الكهل نفسه من الصياح، وقد تملَّكه الرعب وهو يرمق سيده: فتاة؟!

قال «فرناندو»: أنت تذكر هذا اليوم الذي اتبعت فيه أثر الظبي الجريح غير ملقٍ بالًا إلى نصائحك المشؤومة.. إن العين هناك تنبع من جوف صخرة، ينحدر منها الماء قطرة قطرة! لقد جاءت مني التفاتة الى صفحة الماء فلمحت عيناي في قاعه شيئًا بالغ الغرابة! أتعرف ما هو؟! لقد كان عيني امرأة! كانت فتاة جميلة كما لم ترَ عين قط! قلت لها: من أنتِ؟ ومن أي أرض أتيتِ؟

وتحركت شفتا الفتاة وهي متجهة إليه بصوت كأنه أنغام آتية من عالم الغيب.. فرناندو أنا أبادلك حبك بمثله أو بأعمق منه!، أنا الروح الصافية الطاهرة التي نزلت من سمائها لكي تحب بشرًا فانيًا تائبًا مثلك!

تعال إلي.. إن ضباب الغدير يطفو أمام أعيننا كأنه شراع تائه على صفحة الماء.. والأمواج تلقي إلينا بنداء خفي عميق، والريح تعزف بين أوراق الحور نشيد الحب.. تعال.. تعال!

ودنا «فرناندو» الى حافة الصخرة حيث مالت ذات العيون الخضر، كانت توشك على منحه قُبلة! لقد كانت قُبلة من ثلج! تناثر الماء المتألق حوله، ثم التف حول جسده دارات الماء المفضضة، وهي تتسع وتتسع، حتى ترتطم بصخور الشاطئ!.

لقد كانت نهاية القصة كافية تمامًا لأن أرتدع وأعود الى البيت سريعًا لا إلى الصداعات، خاصة وقد بدأ المزارعون القلة الذين مروا يحذرون من مغبة السقوط في مياه المشروع، غير أن الفتاة الخارجة من «البيت الأحمر» بدأت في الترحيب بي من بعيد.. أن تعال شريف.. تعال!.

كانت الوردة تقترب مني عندما نجحت محاولات في غرس سن «البوصة» بداخلها، وحين كنت أسحبها وأمنّي النفس بإهدائها للفتاة، وجدتها وقد انفرطت دوائر وحلقات، وتناثرت أوراقها فوق الماء، وكنت أدير ظهري لها وللفتاة وأعود!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store