Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

الهرب من عشاق وتلاميذ "الشاعر الرجيم"

A A
كنت طفلاً عندما شاهدت لقاء المذيعة الراحلة ليلى رستم مع عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، والذي جاء فيما يشبه المحاورة مع نخبة من أدباء ومفكري مصر، كان من بينهم أستاذي كامل زهيري، وشاعري عبد الرحمن صدقي. ولأنني لم أعِ منه سوى ما قاله أبي عن توجيه العميد للكتاب الجدد بأن يقرأوا بمقدار ما يكتبون، وأن يقرأوا قبل أن يكتبوا، فقد داومت ومازلت بعد ثورة الانترنت على مشاهدة اللقاء الموجود على «اليوتيوب» بين فترة وأخرى، خاصة ما يتعلق بالاعترافين المهمين اللذين انتزعهما استاذي وشاعري

وحين جمعني القدر بأستاذي كامل زهيري في عدن أحسست أنني أقف على شاطئ الثقافة العربية والحضارة الفرعونية، والفكر العالمي، والفن التشكيلي.لقد كان من الواضح أن أستاذي يستمزج طريقتي القروية في الحكي مع الصيادين اليمنيين وتعطيش الجيم، وتقليدي المستمر لأستاذي عبد الوارث الدسوقي، قبل أن أكتشف فيما بعد أنه كبير الحكائين العرب!. عدت بأستاذي الى أجواء لقاء العميد، وسنوات رئاسته لمجلة الهلال، حيث تعمقت صداقته بالشاعر صدقي، وعندما توفيت زوجة الأخير وكتب فيها ديوانه الجميل، تعمقت هذه الصداقة، التي يصفها الأستاذ بقوله: أحسست نحوه بضعف ضاف، حتى أصبحت أسيره، وأحببت روحه وصدقه..

كان بصوته الأجش الشجي يطربني بصيحاته ودهشاته، وكانت تجمعنا هواية خفية هي عشق الرسم والصور، أو التصاوير كما كان يسميها، وزاد من إكباري لهذا الفنان الأديب، ذوقه الحساس للصورة الشعرية، والصورة المرسومة! والحق أنني خلت أستاذي يتحدث عني لا عن نفسه!، عن سر إعجابي وانبهاري الشديد به، وكيف علمني مبكراً أن الصحفي الحقيقي ينبغي أن يكون إنساناً وفناناً ومثقفاً وأديباً ومناضلاً، بالمفهوم الشامل والكامل للانسانية، وللفن، وللثقافة، وللأدب، وللنضال! راح أستاذي يتحدث بحب وحماس عن صديقه الشاعر الرقيق عبد الرحمن صدقي، ورحت أروي له ما فعله بي كتابه الرائع «الشاعر الرجيم .. بودلير»! والحاصل أنني نجوت من سطوة بودلير على تكويني الأدبي والقيمي مبكرا، فور الانتهاء من قراءة الكتاب الذي تأملت ما ورد فيه من وصف لحوارييه ومقلديه من شعراء السبعينيات والثمانينيات! بل انني عاينت بنفسي وتحققت من انطباق هذا الوصف على كثيرين! والذي حدث من وجهة نظري أن بودلير برر أو منح هؤلاء فرصة أو رخصة لاستغراقهم في دوامات اليأس والكآبة، والاستهتار حد الادمان، بل والكراهية والسادية والخطيئة أحيانا!.

كان معلمي وصهري الحبيب محمد عفيفي مطر قد غادر مصر، حين منعتني المسافة من مداومة اللقاء بالشاعر الوفي الحبيب محمد الشهاوي، وشغلتني الصحافة عن مجالسة ابن عمي الشاعر الجميل مصطفى سليم. وكان شاعرنا الكبير عبد الرحمن صدقي ينبه ويحذر في مستهل تقديمه لبودلير، من أن الفن وحياة الفنان في حالة بودلير، كل لا يتجزأ، بل لعل الرجل والشاعر لم يمتزجا في أحد امتزاجهما في بودلير! وبالاضافة الى الأقاويل التي انتشرت عنه -عن بودلير-، فقد كان هو أحرص الجميع على تهجين سمعته، وتشويه صورته! لقد كان أوفر الناس سهما في إشاعات الشناعات عن سيرته، والتهويل بخبايا دخيلته، ولعاً منه بالتلبيس والايهام، والتلذذ باللعب بعقول السادة الجامدين، وترويع دعتهم، والعبث باحتشامهم! ثم جاء جيل الشباب -وهم بطبعهم مدفوعون الى الثورة- فاستطيروا إعجابا بهذه المواقف من الشاعر الرجيم، وتمثلوه في صورة الشيطان المفسد، خدن الشر وداعيته، فارس الظلمات المستهتر بالأقداس والحرمات، الناقم على الأرضين الساخر بالسموات!.

الآن ومن خلال تأملي لمقدمة عبد الرحمن صدقي في بودلير، أجدني مدينا له بتقديم وترسيخ السبب الأساس وراء هجري ليس للشعر وإنما للشعراء الذين تعرفت عليهم صبيا يفتح لهم أبواب مجلة «سنابل» التي أسسها مطر في «كفر الشيخ»، ثم صادقتهم شابا بعد سفر مطر.. أسكن معهم أحياناً ويستضيفونني في بيوتهم ومكاتبهم أخرى!.

في تلك الحقبة وتحديداً في منتصف الثمانينيات، زادت حدة الاستغراق في تعرية القصيدة، حد التجرؤ تارة على القيم، وأخرى على التقاليد والأعراف، الى أن وصلت الى حد التجرؤ والوصف المنحرف للذات الالهية! ورغم حبي لكثير من هؤلاء الذين تمردوا على كل شيء، فقد وجدتني أنغمس أكثر فأكثر في الصحافة وتحديدا في العمل الميداني، تاركا الشعر لأهله، وتاركاً بل ورافضاً لأجواء بودلير! قلت لاستاذي بصدق.. لقد قرأت بودلير، بروح مختلفة، بفضل الشاعر عبد الرحمن صدقي، بل انني تعرفت على من قلدوه كخدن مصطنع للشر، ومن ترخصوا في المحاكاة، وغالوا في الاستهتار بالاقداس والقيم، ومن كانوا يتلذذون بأن يشير الناس اليهم باعتبارهم شياطين وملحدين! والعجيب في هؤلاء كلهم، أنهم لم يحاكوا بودلير في صدقه، عندما بدأ يعترف بشططه، وانما غرقوا تماما في دوامة التلبيس والإبهام، والاختباء عند مهاجمة التراث بداعي الغموض!.

كنا نغادر المكان عندما وقف استاذي متأملاً في مياه خليج عدن قائلا: تبارك يا رب سوط النقم.. تبارك يا أبتاه الألم.. فلم تك نفسي بين يديك، بألعوبة من هوان لديك! تعاليت فيما اقتضت حكمتك.. وقدست فيما ارتضت رحمتك!!.

كان يردد بعضاً من آخر قصائد بودلير، وكنت أضحك من القلب، وأنا أفر من أمامه كطائر نزق!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store