Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
نبيلة حسني محجوب

الدعوة إلى النسيان!

A A
كُلٌّ مِنَّا يستحث الذاكرة، ويجري عليها كشفا ذاتياً دورياً ليطمئن على أنه ما زال بقواه العقلية، خصوصاً مَن تَقدَّم به العمر مثلي، مع أن النسيان أصبح ديدن الصغار والكبار، وأصبحت كلمة «نسيت»، تباغتك كلما سألت شاباً أو طفلاً أو صبيَّة، عن أمر أو شيء أو تكليف.

لا أذكر أني في تلك المرحلة العمرية كنت أعاني من النسيان، الآن الجميع يعاني وأصبحت مشكلة جماعية، لكن الجميع ينتابه القلق وربما الخوف من وصوله إلى مرحلة أعمق من النسيان، عندما تخذله الذاكرة، أو تسترخي وتفرغ محتوياتها، أو أنها تسقط كلما يردها تباعاً، فيصبح النسيان مرضاً، وأصعب الأمراض هو مرض الذاكرة، عندما تفقد كل ما تعرفه، وكل ما يقع عليه نظرك أو تسمعه، تلك الحالة التي يصل إليها مريض الزهايمر، عندها لا تصبح معاناته هو؛ لأنه غير مدرك لأبعادها، بل معاناة من يتولى أمره من ذويه، أعانهم الله. لا أحد يرغب أن تتخلى ذاكرته عما فيها، ولا أبسط الأمور وهي الأكثر سقوطاً وتسرباً من الذاكرة، لكن الروائية الجزائرية «أحلام مستغانمي» تدعو إلى النسيان في كتابها البديع: (نسيان com).

في مقدمته تحت عنوان: «بلاغ رقم واحد»، تدعو إلى تأسيس حزب جديد بدون ذاكرة، وتخاطب الناس بقولها: «لا أرى لكم من خلاص إلا في النسيان. فلا تشقوا بذاكرتكم بعد الآن. انشقوا عن أحزابكم وطوائفكم وجنسياتكم ومكاسبكم، وانخرطوا في حزب، جميعنا متساوون فيه أمام الفقدان»!.

تلك دعوة موجهة إلى النساء، فهي تصدر كتابها بقولها:

أحبيه كما لم تحب امرأة... وأنسيه كما ينسى الرجال!.

هي دعوة يمكن أن يستفيد منها الجميع رجالاً ونساء، لنسيان عذابات الحياة، المآسي، الغدر، الخيانة، الإساءة، كلها مواقف لا تستحق أن تستحوذ على حيز في الذاكرة، تضغط مساحتها وترهق النفس باستعادتها، لكن الفقد ليس موقفاً أو حالة يمكن إحالتها إلى خانة النسيان، فقد عزيز، ابن، أخ، أو فقد الوالدين، أو حتى فقد شخص تعرفت عليه، قابلته ربما مرة أو مرات معدودة، لا يمكن له أن يغادر الذاكرة كما غادر الحياة!.

ربما تجد السلوى في استحضار وجوه من رحلوا، أنا أستحضر وجه أمي وأبي، قامتهما، رائحتهما، وكأني في حضنهما، آخذ نفساً عميقاً، وعيناي تسبحان في بحر من الدموع، كما هي حالتي الآن وأنا أكتب عنهما، أستحضر وجه أخي، ابتسامته، قهقهته، جلسته، مواقفه، كل التفاصيل المتعلقة به، رحمهم الله جميعاً وأسكنهم الفردوس الأعلى من الجنة. أحيانا يباغتك أحدهم بقوله: «انسى»، وأنت تقص عليه إساءة قريب، أو غدر صديق، أو خيانة حبيب! تنظر إليه، كيف اختزل كل مشاعر الألم التي تضطرب في صدرك في كلمة «انسى»؟!.

هل بالسهولة إطلاق تلك الكلمة ككبسولة دواء عندما تبتلعها يزول ألمك وتتعافى مما أصابك؟!.

ليتنا نستطيع بسط سطوتنا على ذاكرتنا، لاحتفظنا بالكثير من الجميل الذي قدم لنا، وبكل الوجوه التي مرت في حياتنا، كي لا نبدو في منتهى الحرج عندما نلتقي بأحدهم فجأة، فلا نعرف هل نعرفه أم أنه شبه لمن عرفناه، فتبدو تصرفاتنا وردود أفعالنا ربما محبطة ومعيقة لتفاعله معنا.

ليتنا لا ننسى ما قرأناه وما حفظناه وما شاهدناه وما كتبناه، هناك مَن يتمتع بقدرة فائقة على التذكُّر، وحفظ ما يقرأه بمجرد وقوع بصره عليه، تلك منحة ربانية، ولكن معظمنا ليس بحاجة لدعوة لينسى، لأنه ببساطة ينسى!.

أصبح الخوف من تفاقم النسيان وسواساً يُحرِّضنا على البحث على كل ما يُبقي الذاكرة بكامل طاقتها، بحيث أصبحت مادة دسمة للمزايدة من غير المختصين بالوصفات والدعايات لأغذية وأدوية لم يقل فيها الطب كلمته!.

مع ذلك يبقى النسيان أحياناً رحمة من رب العالمين، عندما تنسى من أساء إليك وتنسى الإساءة، لكن الغدر والخيانة ليسا فقط في الذاكرة، بل يفتحان جراحاً عميقة في القلوب لا تبرأ أبداً!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store