Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
نبيلة حسني محجوب

ترنُّح الذاكرة!!

A A
ليس بالمعنى الطبي الذي يعني «الخَرَف»، الذي يصيب التفكير المنطقي، والتنظيم، وإصدار الأحكام والذاكرة وغيرها من عمليات التفكير الناجمة عن تدفُّق الدم إلى الدماغ.. ولا ترنُّح الذاكرة بالمعنى الذي وصفه الروائي المغربي «الطاهر بن جلون»، في روايته الجميلة: «عندما تترنَّح ذاكرة أمي»، وهو يصف حالة الزهايمر الذي أصيبت به أمه، ويصف حالات ترنُّح ذاكرتها بين التذكُّر المفاجئ والتقهقر إلى الماضي، يقول: تحوَّلت أُمِّي منذ مرضها إلى كائن نحيل صغير، ذي ذاكرة مترنحة. فهي تنادي أفراد أسرتها الذين ماتوا من زمنٍ بعيد. تُكلِّمهم. يدهشها أن والدتها لا تزورها.

الترنُّح الذي أقصده في هذه المقالة، هو هذه الحالة من النسيان، ليس النسيان الذي أصدرت له الروائية الجميلة «أحلام مستغانمي» كتاباً أدبياً بعنوان: «نسيان COM»، تقول عن النسيان في إحدى صفحات الكتاب: «ما النسيان إلا قلب صفحة من كتاب العمر. قد يبدو الأمر سهلاً، لكن ما دمت لا تستطيع اقتلاعها، ستظل تعثر عليها بين كل فصلٍ من فصول حياتك».

فالأول نسيان يزحف على ذاكرة الإنسان بطيئاً، لكن مظلماً وكئيباً، يمنع دخول ذكريات جديدة، ويعبث بالذكريات القديمة، يُقدِّم ويُؤخِّر فيها، يحيي الموتى ويعيد الأحزان المنسية والأفراح القديمة، لكن الثاني نسيان أنت تسعى إليه بكامل وعيك، ليُخلِّصك من ذكريات علاقات لم تكتمل، أو أنها أحدثت لك جروحاً، أو أنها خدشت روحك أو كبرياءك. «ليس في مشروعنا من خطة، سوى مواجهة إمبريالية الذاكرة، والعدوان العاطفي للماضي... أيها الناس اسمعوا وعُوا. لا أرى لكم - والله - من خلاصٍ إلا في النسيان. فلا تشقوا بذاكرتكم بعد الآن». تلك دعوى للنسيان بكامل الوعي والإرادة، لكن هل تستجيب الذاكرة؟!. النسيان الذي أعنيه بهذا العنوان: «ترنُّح الذاكرة»، هو النسيان المؤقت، الذي يُفاجئك في أوقات لم تكن تتوقعها، يُباغتك فجأة، كطعنة خنجر مباغتة، يُصمتك عن الكلام خلال حديث ودي بين أحبتك، وأنت مسترسل في سرد حكاية، أو موضوع يتضمن بعض المعلومات أو الأسماء لشخصيات فنية، أسماء أفلام، كتب روايات، أو أسماء كُتَّاب أو مُؤرِّخين، أو أبطال قصة، رواية مثلاً؛ فتجد نفسك تستجدي الذاكرة كي تسعفك بالمطلوب، ولكن كأن الذاكرة مُسِحَت، رغم أن تلك الأسماء كانت حية نابضة في ذاكرتك، وأنت على ثقة بأنك تعرفها كما تعرف اسمك، وأنها ستعود تملأ ذاكرتك بعد ذلك الموقف الذي ترنَّحت فيه ذاكرتك.

النسيان المؤقت، أو ترنُّح الذاكرة؛ أصبح ظاهرة يشكو منها الصغار والكبار، أي أنها ليست مرتبطة بالعمر، كالخرف أو المرض، فهي حالة مؤقتة، تصيبك في أوقات تكون فيها في أمس الحاجة إلى مخزون الذاكرة.

هل مررت بتجربة «على طرف لساني»، هذا هو النسيان المؤقت، كانت الأسماء تلهو في ذاكرتك، وربما تتعارك وتتدافع أيها يأتي إلى لسانك، ولكن الاسم الذي تختاره يقف على طرف لسانك؛ ثم ينزوي في سوادٍ دامس، حتى تنتفي الحاجة إليه، يعود إلى موقعه في المكان المضيء من ذاكرتك.

لم يعد غريباً أن يأتيك جواب ابنك أو ابنتك أو العاملة مثلاً بعبارة: «نسيت»؛ عند سؤالهم عن أمر طلب منهم، ربما هذا نسيان افتعالي، لأنهم لم ينتبهوا للكلام، أو أنهم انشغلوا في أمورٍ أكثر جدوى لهم، لكن النسيان المؤقت، يُداهمك وأنت تبحث عن شيء مهم جداً، أنت تعلم أنَّك حفظته في مكانٍ أمين، لكنك عندما تحتاجه، تفقد القدرة على تذكُّر مكانه، أو أين وضعته، أو أنك تفقد كل ملامح اللحظة التي قمت فيها بحفظه.

تمسك هاتفك، تريد أن تتصل بشخص لأمرٍ ضروري، ثم تفقد ذلك الأمر، تنسى لماذا تطلب الشخص، فتتراجع عن الاتصال.

مواقف كثيرة مرَّت وتمر علينا تدخل ضمن «ترنُّح الذاكرة»، لكنه ترنُّح مؤقت، حمانا الله وحماكم من ترنُّح ذاكرة «أم الطاهر بن جلون»!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store