Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
نبيلة حسني محجوب

لا أحد سوى الصمت!

A A
هكذا يبدو العالم حول من سيطرت عليه مشاعر الوحدة، وهي ليست خاصة بفئةٍ عمرية أو بجنس، فهي موجودة في كافة أطياف المجتمع، لكنها تصبح مزمنة ومؤذية عندما يصاب بها كبار السن، خصوصًا النساء. مشاعر الوحدة تصيب الإنسان عندما تنتهي مسؤولياته الأسرية، أو عند بلوغ سن التقاعد، يشعر بالحنين إلى الروتين الوظيفي اليومي، أو إلى ضجيج الأبناء، بينما الأبناء كلٌّ إلى طريق، لكل منهم حياته ومسؤولياته، يبدأ عصرهم بينما أفل عصر آبائهم وأمهاتهم، لديهم مسؤوليات النجاح والتفوق في الحياة العلمية والعملية والأسرية، أصبح لديهم أسرة صغيرة مسؤولون عن كل ما يخصها، لذلك ربما تغرقهم المسؤوليات فيبتعدون قليلاً أو كثيراً عن والديهم أو أحدهما، فيملأهما أو يملأه هذا الشعور بالصمت.

بعض الآباء والأمهات لا يكتفي بمشاعر صمت ما حوله، بل يتخذ من الصمت حياة، ينعزل ويتقوقع على وحدته ومشاعر عدم الاهتمام، لكنه يزداد حنقاً على من حوله، يجف داخله، يخفت نبض الحب والشوق في قلبه، ربما تتحول مشاعر الوحدة إلى جفوة وغلظة في القول والفعل مع من حوله، وهم يحيلون ذلك إلى التقدم في السن، أو إلى أنها مظهر من مظاهر الخرف مثلاً، أو لأسبابٍ لا تقترب من جوهر المشكلة، وهو الإحساس بالفراغ. الفراغ الرهيب الذي يُغلِّف حياة كبار السن -ممَّن أفنى عمره في وظيفة روتينية مثلاً، أو في الاهتمام بالأبناء والأسرة، ثم لم يجد وقتاً وربما رغبةً لأن يُطوِّر مهارات أخرى كالتواصل أو هوايات تملأ أوقاته، وبناء قاعدة صداقات من كل مرحلة عمرية يستطيع التواصل معهم، وقضاء أوقات ممتعة حتى لو في التنقيب في ذاكرتهم المشتركة- لهو أمرُ مؤلم يقض مضاجعهم.

ربما هناك من يقول أي غربة وأي صمت ونحن في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، والأجهزة المختلفة بين يدي الصغير والكبير، الطفل والشاب، أجل صحيح، لكن ربما تكون هذه إحدى أسباب تفاقم الإحساس بالصمت، أو ازدياد مشاعر الغربة في نفوس كبار السن، لأن كل مَن حولهم مشغول بجهازه، والتواصل مع الأصدقاء الافتراضيين، حتى في المطاعم، تنصت فقط إلى الصمت الرهيب.

عندما كُنَّا في الصيف في لندن، وندخل أي مطعم، كان يدهشني ضجيج أصوات الجالسين حول الموائد، الجميع يتحدث لا أحد يمسك هاتفه وينظر إليه، أكتب هذه المقالة وأنا في كافتيريا الفندق في لندن، والضجيج حولي، لا أشعر بالوحدة ولا بالصمت والغربة، لفتُّ نظر بناتي وأحفادي إلى تمتُّع الجميع بالصحبة على الطعام. كنت بعدها في مقهى رأيت ثنائيات من شباب، ربما زوج وزوجة، كل واحد منهما منهمك في هاتفه، وهما يجلسان في مقهى! للأسف أصبح الجميع لدينا مهتم بأصدقائه الافتراضيين، لذلك وجد بعض كبار السن بعض التسلية في وسائل التواصل ومتابعة كل ما يُعرض فيها، وإعادة إرسالها إلى مجموعات الواتس مثلاً، لكن يعود يملأه الشعور بالصمت، وأن لا أحد حوله مهما أمعن في هدر الوقت في قنوات التواصل، لأنه بحاجة إلى التواصل الحميم، التواصل مع مَن ينظر في عينيه، يلمس كتفه أو كفّه، يشعر بأنفاسه وهو يتبادل الحديث معه، هو هذا الذي يحتاجه أولئك الذين يغرقون في الصمت الرهيب.

يقول علماء النفس بأن الوحدة هي شعور أليم للعزلة المحسوسة، كما توصف الوحدة بأنها ألم نفسي، أي أنها آلية نفسية غالباً ما تقترن بافتقار غير مرغوب للاتصال والحميمية.

أزيلوا عن أحبتكم مشاعر العزلة، وأخرجوهم من غياهب الصمت إلى أنوار المحبة والحوار والحميمية، الأهل والأحبة الأقربون أهم من صداقات وسنابات وقنوات الهدر والفوضى!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store