حينما يعيد الباحث قراءة ما كتبه عباس محمود العقاد في دراساته، ومقالاته، ومقدمات دواوينه الشعرية؛ فضلاً عن معاركه الأدبية والنقدية حول مفهومه للشعر؛ يقف من كل ذلك أمام معضلة شائكة، نظرًا لمحاولة جمع شتات تلك الممارسات المفاهيمية -إن صحّت العبارة- كي يجد للعقاد مفهومًا وضحًا للشعر؛ لأن العقاد نفسه يرى تلك التعاريف= المفاهيم بابًا من أبواب الجمود والحجر في الفهم والدلالة؛ لأن الشعر -كما يراه- أكبر من أن يحيط به تعريف واحد؛ فمن يحاول أن يحصر الشعر في تعريف محدد، فهو كمن يحاول أن يحصر الحياة في تعريف محدد.
فالشاعر لا ينبغي أن يتقيّد بمطلب واحد يطوي فيه جميع المطالب، فكل تعبيرٍ جميل صادر من الشعور الصادق فهو شعر سواء كان مديحًا، أو هجاءً، أو وصفًا للإبل والأطلال، وكل ما خرج من هذا الباب فليس بشعر، وإن كان قصة، أو وصفًا للطبيعة.
مع ذلك؛ فلا نعدم أن نجد للعقاد بعض المفاهيم المنثورة حول الشعر، دون نصل في جمعها تحت تعريف واحد جامع ينطق باسم العقاد ويعرف به؛ وإنما هي أشتات متفرقات؛ إنها تشبه القبسات العامة لملامح الشعر في مداره الواسع بعيدًا عن القوالب الجامدة، ولا يهم العقاد شيئًا من تلك التعاريف، ولا يعنيه منها، ومن الشعر إلاّ نوعًا واحداً يدور حوله كلامه، وهو: "الشعر المطبوع الأصيل أما الشعر المقلد المموه فلا فائدة له قط... وشتان بين كلام هو قطعة من نفس، وكلام هو رقعة من طرس".
وفي هذا السياق؛ فالعقاد لا يقف بالشعر عند حدود الوزن والقافية؛ بل يتجاوز ذلك حتّى وأن عرف على: "أنه الكلام الموزون المقفى". فهذا تعريف علماء وقف عند حدود القالب ولم يتجاوزه، وليس -هو- تعريفًا للشعر إلاّ من جانب واحد، فإذا أريد تعريفه وجب أن يتناول القالب وما يحويه من تجارب الشعور وخواطر النفس.
صحيح أن الشعر ليس القالب وحسب؛ بل هو شعور إنساني له طريقة خاصة في التعبير عنه، وامتياز الشعر أن يكون ذا نغم، وأما شكله أو قالبه فقانون ونظام لا يحددان الشعور؛ ولكنهما يحددان المظهر ليزيد من قوة الأثر الوجداني، ويتخذ الموسيقى من وسائل التأثير.. ولم يفهم القدماء أن الشعر قالب؛ بل فهموه كما يجب أن يفهم الشعر، ففرقوا بينه وبين غيره من الكلام الموزون المقفى، وفهموه (انفعالاً نفسيًّا إنسانيًّا) وأدركوا أنه انبثاقة غير خاضعة لإرادته؛ لأنها انبثاقة شعورية منطلقة.
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
