Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محمد البلادي

لهجات العرب: دلالات ومفارقات!

A A
في أثناء الحرب بين الجمهوريين والملكيين في اليمن عقب ثورة 1962، كان بعض الجنود المصريين المساندين للجمهوريين يتخفّون في ملابس يمنية للتنقل.. فإذا وقع أحد منهم في قبضة القبائل الذين كان أغلبهم مساندًا للإمام، يقولون له لكي يعرفوا حقيقته: (قل بقرة)!.

فإذا قال (بأرة) بالهمزة، عرفوا أنه مصري، فيتم اعتقاله، وإن قال (بغرة) بالغين، فهو من المناطق الوسطى تعز وإب وما حولهما، أي أنه جمهوري، فيتم اعتقاله أيضاً.. أما إن قال (بقرة) بالقاف وبلهجة أهل صنعاء، فهو ملكي يُسمح له بالعبور.

في كل لغات العالم، هناك لهجات مختلفة، تتعدد وتتنوع بحسب مدى انتشار اللغة الأم وشيوعها.. والعرب من (مسقط) شرقاً إلى (نواق الشط) غربًا؛ يتحدثون لغة واحدة، ولكن يمكن تمييز اختلاف متفاوت في اللهجات المحكية بين بلد وآخر، بل ربما بين منطقة وأخرى داخل البلد الواحد. هذه اللهجات لها دلالاتها الجغرافية والثقافية والاجتماعية وربما الاقتصادية، فتستطيع من خلالها معرفة المنطقة أو المستوى الثقافي، وأحيانًا المستوى الاقتصادي للشخص من خلال لهجته وطريقته في الحديث.

يُرجع خبراء اللغة سبب اختلاف اللهجات إلى عاملين رئيسيين هما: الانعزال الجغرافي وما يتبعه من تمايز ثقافي بين بيئات المجتمع الواحد، والعامل الثاني هو الهجرات والغزوات القديمة، وقد سجل التاريخ العربي اختلافاً في اللهجات منذ العصر الجاهلي، فقبيلة ربيعة مثلاً، اشتهرت بإبدال الشين من كاف الخطاب المؤنث، كَـ(علَيْشِ ومِنْشِ)، بدلاً من (عليكِ ومنكِ)، أما تميم فكانوا يستبدلون العين بالهمزة، فيقولون: «أن، بدلاً من عن» بينما تستبدل ثقيف حرف الحاء بالعين فتقول: (عتّى بدلاً من حتى)، وهذه اللهجات موجودة إلى اليوم.

لا يقف الاختلاف اللغوي عند نطق الحروف وأصواتها، بل إنه يصل أحيانًا للمعاني، التي قد تختلف بين دولة وأخرى، أي أن الكلمة قد تستخدم في بلد بمعنى مختلف كلياً عن معناها في بلدٍ آخر، كما حدث في أول اجتماع لدول الجامعة العربية، الذي تم في صيف العام 1945م في القاهرة؛ بالقرب من ميدان (باب النوق)، الذي يطلق عليه القاهريون (باب اللوق).. فنظراً لحرارة جو القاهرة، قياساً ببلاد الشام، شعر رئيس أحد الوفود الشامية بالعطش، فطلب من منسق المؤتمر أن يحضر لهم (بوظة)، ولمّا كانت (البوظة) في لهجة عرب مصر عبارة عن (مُسكر) رخيص الثمن، يصنع من دقيق الذرة المخمّر، وتشتهر به منطقة (بولاق) الشعبية تحديداً، فقد أرسل المسؤول على عجل -رغم استغرابه من الطلب- مَن يُحضر للوفد الشامي (بوظة) بولاق الشهيرة.. وعندما وضعت (قرعات البوظة) أمام الوفد الشامي، أدرك عرب الشام خطأهم، فشرحوا لـ عرب القاهرة أن البوظة في المحكية الشامية تعني ما يسمى عند (الخواجات) بـ (الآيس كريم)، وليس هذه المادة خبيثة الرائحة والأثر!.

للهجات دلالاتها التي تتجاوز التخاطب والتفاهم والمعاني المباشرة لما هو أبعد من ذلك بكثير، فسبحان القائل: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِين).

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store