Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محمد البلادي

عصر الإدمان!

A A
عرفت البشرية الكثير من التسميات للأزمنة والعصور السابقة بناءً على سماتها الغالبة، فهناك «عصر النهضة» و«عصر التنوير» و«عصر المنطق»، وغيرها من التسميات.. وإذا جاز لنا تسمية عصرنا الحالي، فإن أقرب تسمية يمكن أن تُطلق عليه بلا تردد هي (عصر الإدمان).. فالبشرية تعيش بالفعل الإدمان بكل معانيه وأشكاله وتبعاته.. وليس المقصود هنا إدمان المخدرات فقط، بل نعني أيضاً تلك الأشكال الجديدة والمتشابكة من صنوف الإدمان، والتي لم تعهدها البشرية من قبل.

لقد توسَّع مفهوم الإدمان كثيرًا في زمن (الاستهلاك والتواصل)، ليشمل أشكالاً أخرى لا تقل خطورة ولا ضررًا عن المخدرات، فهناك إدمان الإباحية الرقمية، وإدمان الألعاب الإلكترونية، وإدمان الطعام السيئ، والتناول المفرط للسكر، وإدمان الشراء والتسوق، وإدمان مواقع التواصل والشبكات الاجتماعية.. وستتأكد أن ليس في الأمر تهويل ولا مبالغة إذا عرفت أنَّ منظمة الصحة العالمية أدرجت مؤخراً إدمان الألعاب الإلكترونية ضمن قائمة أمراض الإدمان التي تعمل على محاربتها، والتقليل من خطورتها.

لاشك أن لسياسة الإغراق التي تمارسها علينا الرأسمالية (المتفلتة) من كل عُقل الإنسانية، ومن أبسط ضوابط العقلانية، الأثر الأكبر في تعاظم هذا السيل الجارف من الإدمانات الجديدة.. فالتسوق مثلاً يُعد ضربًا من أسوأ ضروب الإدمان وأشدها فتكاً بالإنسان، لاسيما بعد انتشار تطبيقات الشراء والتسهيلات البنكية التي لا تُسهّل الشراء وحسب، بل تدفعك إليه دفعاً، بمساعدة فخاخ الإعلانات التي تُشعرك دائماً بعدم الرضا عن حياتك، وبحاجتك المستمرة للشراء والتغيير، (لاحظ أننا نشتري أشياء كثيرة لا نحتاجها)، إنها ثقافة (الاستهلاك الجائر).

لقد ضخّت فينا الرأسمالية المتوحشة، المفهوم الاستهلاكي بشكل مفرط، حتى تحوَّل معظم البشر إلى قطعان من المدمنين، يُقادون إما بجزرة المتعة؛ أو بعصا التقليد إلى الإدمان المدفوع. ويشرح (شون باركر) أحد أهم المدراء التنفيذيين لموقع فيسبوك تقنية ما يُعرف بـ(الهندسة الذهنية)، التي تقوم عليها مواقع التواصل الاجتماعي فيقول: «كل شيء يتمحور حول كيف لنا أن نأتي على أكبر قدر ممكن من أوقاتكم، والاستحواذ على انتباهكم وأذهانكم، لذلك ينبغي علينا أن نُعطيكم بين الحين والآخر جرعات متقطعة من الدوبامين!.

إذا كان الفرق بين العادة والإدمان يكمن في السيطرة على الإرادة؛ التي تضبط الأولى وتعجز عن الثانية، فإن الخطر الأكبر أن معظم الأنواع الجديدة من الإدمان تنظر لها الغالبية من الناس كنمط حياة جديد ومقبول، مما أنهى ذلك التوازن الفطري الجميل الذي استودعه الله فينا.. والأسوأ أن هذا (التدجين) أنهى تلك الأنواع الحميدة والمفيدة من الإدمان، مثل إدمان القراءة، أو إدمان التعلّم، أو إدمان التواصل الإنساني المباشر، الذي أصبح اليوم في أدنى درجاته!.

ولأن التأثيرات السلبية لهذه الأشكال الجديدة من الإدمان تتجاوز المستوى الفردي إلى المستوى المجتمعي والوطني، فإنها تسهم دون شك في انخفاض الإنتاجية، وزيادة معدلات البطالة، وتفشّي المشاكل الصحية النفسية والجسدية.. لذا يُعدّ (الإدمان) تحديًا كبيرًا للأفراد والمجتمعات على حدٍّ سواء، ومن المهم توفير التوعية والدعم اللازمين لمواجهة هذه المشاكل، وتعزيز الصحة النفسية والجسدية للجميع.. فهل نعي هذا؟!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store