Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
نبيلة حسني محجوب

المقاطعة.. جعجعة بدون طحين!

A A
عندما تكونُ الأحداثُ أكبرَ من قدرةِ المرءِ على استيعابها أو تجاوزها، يظلُّ مرتهنًا لها -عقلًا وقلبًا- فما يحدثُ للفلسطينيِّين في غزَّة، لا يتركُ للكاتبِ مساحةً حرَّةً يُطلقُ فيها قلمَهُ، يظلُّ يراوحُ مكانه، يبحثُ عن نقطةِ ضوءٍ تُخرجه من نفقِ الأحداثِ المظلمِ، وجرائم الصهاينةِ ضدَّ البراءةِ والطفولةِ، ضدَّ الحياةِ والأمنِ والاستقرارِ.

الحقدُ الأسودُ ضدَّ سكَّانِ غزَّة، لم يتركْ لديهم بصيرةً للتفرقةِ بين المدنيِّين العُزَّلِ، ومَن قام بمناوشتهم واستفزازِ حقدهم وجبروتهم. شهوةُ التَّوسُّع والامتداد التي يتقنُها الصهاينةُ، أعمت بصائرَهم وضمائرَهم، لذلك يُعْمِلُون آلتهم الحربيَّة بكلِّ شراسة لتوسعة رقعة الأرض المحتلَّة، لم يكتفُوا بتكوين دولةٍ صغيرةٍ منبوذةٍ وسطَ عالمٍ فتحَ عينيهِ على بُغضِهم، وتغذَّى بكراهيَّتهم، بل ينتهزُون كلَّ فرصةٍ لإرهابِ السكَّان وتهجيرهم، واحتلال أرضهم، بعد أنْ تمَّ تحويل مساكنهم إلى رمادٍ.

مشاهدُ قتلِ المدنيِّين العُزَّلِ والنساءِ والأطفالِ، بقدر هيمنتها على العقولِ والقلوبِ، فهي -أيضًا- تبذرُ بذورَ الكراهيةِ في نفوسِ وعقولِ الأطفالِ والشبابِ ضدَّ إسرائيل، النبت الشيطاني الذي تسلَّق على أمنهم واستقرار دولهم، هؤلاء الصغار الذين يشاهدُون كلَّ ما يُبَثُّ على قنوات التَّواصل والأجهزة الذَّكيَّة التي بين أيديهم، مَن يُعيد إليهم براءتهم؟!.

الأجيالُ التي فتحتْ أعينها وعالمنا العربيُّ يخرج من أزمةٍ ليدخلَ في أزمة أكبر وأشد، منذ أحداث 11 سبتمبر وتداعياتها، الحربُ الأمريكيةُ على أفغانستان والعراق، ثوراتُ ما عرفَ بالربيع العربيِّ، موجاتُ الإرهاب التي اجتاحت العالم، بالإضافة إلى كوارث التطرف المناخيِّ، والكوارث الطبيعية، كالزلازل والفيضانات، وما يحدثُ -الآن- في غزّة، كلُّ هذا الذي حدثَ ويحدثُ -الآن- له انعكاساتٌ سلبيَّةٌ على عقول الأطفال، ونفوس الشبابِ، وزيادة عدد الكارهين للوجودِ اليهوديِّ في قلبِ عالمنا العربيِّ.

الأجيالُ السابقةُ التي عايشت الحروبَ الطويلة المدمرة، بين الصهاينةِ والعربِ، كانت أسعدَ حظاً من هذا الجيلِ؛ لأنها لم تكنْ تشاهدُ ما يحدثُ، تقرأُ وتسمعُ ما ينشر ويبثُّ عبر الراديو، ثمَّ نشأت أجيالٌ تشاهد على شاشة التلفاز ما تبثه الأخبارُ فقط، لكنَّ هذا الجيل يتابع الأحداثَ لحظةً بلحظةٍ، بكامل وعيه، وبجميع حواسه.

فاجأني حفيدي -ذو السبع سنوات- بطرحِ أسئلةٍ متلاحقةٍ عن إسرائيل، وعن الذين يدعمُونَ إسرائيل، وعدَّد لي بعضَ الدُّول والشركات؛ لأنَّه طلب مشروبًا في أحد المطاعم في القاهرة، لكنَّ الجرسون أخبره بأنَّ شركة هذا المنتج تدعمُ إسرائيل، لذلك قامُوا بمقاطعة منتجاتها!.

حملاتُ المقاطعةِ هي -أيضًا- تُحْدِث تشويشًا في عقول ونفوس هذا الجيل، رغم أنَّها لا تُحْدِث التَّأثير الذي قامتْ من أجله؛ لأنَّ المقاطعةَ إذا تمَّت بالشكل الصحيح، فهي تؤثِّر سلبًا على الوكلاء، والموظَّفين، والعمَّال داخل الدُّول العربيَّة والإسلاميَّة، التي انتشرت فيها كلُّ المنتجات بشكلٍ كبيرٍ وخطيرٍ.

«ماكدونالدز» مثلًا يأتي على قائمة شركات المقاطعة، «ستار بوكس» سيِّئة السُّمعة، لكنَّهما موجودان وبقوَّة، فإذا مررتَ أمامَ أيِّ فرع من فروعهما، في أيِّ دولةٍ عربيَّةٍ مثلًا، تجد أنَّها تعملُ بكامل طاقتها، لماذَا إذًا تلك الحملات التي تُشوِّش أذهانَ الصغار، وتملأُ أجهزة الهاتف بالقوائم، ورسائل التَّحريض على المقاطعة؟.

لا أحدَ يتوقَّف لينظرَ هل الحملاتُ جاءت بنتائجَ إيجابيَّةٍ، أم أنَّها زوبعةٌ في فنجانٍ كما يقولُون؟! لكن في كلِّ أزمةٍ مع إسرائيل، أو إحدى دُول الغربِ، يتمُّ تداول القوائم التي تحملُ أسماء الشركات الدَّاعمة لإسرائيل، كما يقولُون، هي ذاتُ القوائم التي انتشرت منذ الانتفاضات المتكرِّرة لأطفال الحجارة، والرُّسوم المُسيئة، وعند كلِّ أزمةٍ.

ليتنا تمكنَّا خلال كلِّ حملات المُقاطعة من التَّفكير بجديَّة في التحوُّل من الاستهلاكِ إلى الإنتاجِ؛ للاستغناءِ عن منتجاتهم، فمَن يُطالبُون بالمُقاطعة، يستخدمُونَ وسائلهم، وقنوات التَّواصل التي ابتكرها الغربُ، وجعلنا أسرى استخدامها، لذلك تسمعُ ضجيجَ الحملات، ولا ترى طحينَ المُقاطعة، كفُّوا هداكُم اللهُ!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store