محنة الغيبوبة.. جمال الغيطاني في عمق سؤال الحداثة
تاريخ النشر: 03 سبتمبر 2015 02:00 KSA
تمضي الأيام ثقيلة كالرصاص، وأحد أهم الأصوات الروائية في غيبوبة، جمال الغيطاني. مَن لا يعرف الزيني بركات، التجليات ثلاثيته السيرية، وغيرها من الروايات التي تركت أثرًا عظيمًا في المتن الروائي العربي من خلال المثاقفة والتمايز الذي شغل جمال على مدار حياته كلها، التي نتمناها من القلب أن تستمر أكثر، ما يزال عند جمال الشيء الكثير ليقوله لنا جميعًا، ولقرائه على وجه الخصوص. مَن يقرأه بعمق سيكتشف بسهولة أنها كانت إيذانًا قويًّا لمن يريد أن يصغي، وهم لا يصغون في تجليات جبروتهم القاسي من خلال القوة التي جعلوا منها كل شيء في حكمهم. كما كانت تحسسًا وإصغاء قويًّا، من خلال اللغة، لعالم كان يتفكك داخل الصمت، لأنه لم يبن على الأسس الحقيقية التي تضع الإنسان وحقوقه وحرياته في قمة الاهتمامات السياسية والثقافية والحضارية.عندما بحث الغيطاني عن الشكل الروائي العربي المغيب كان يريد أن يقول إن الرواية العربية قادرة على الإسهام في المنتج الثقافي العالمي بخصوصيتها، ولم يكن يبحث عن المسوغات لرفض الرواية في شكلها الغربي. لو بحثنا عميقًا لوجدنا المؤثرات العربية ما يبرر هذا التأثر، وأنه لا يوجد شكل نقي بالمعنى الأدبي، وإلاّ كيف نفسّر المؤثرات الكبيرة التي مارسها أبو العلاء المعري على كاتب مرجعي بالنسبة للحداثة الغربية مثل دانتي أليغري، أو مارسيل بروست صاحب رائعة: في البحث عن الزمن الضائع، الذي اعترف بسلطان ألف ليلة وليلة على نصه هذا، الذي شكل قطيعة مع المدرسة الكلاسيكية الفرنسية. لهذا انتظارنا كبير لجمال؛ لأن المشروع الذي سلكه كان صعبًا ولكنه أيضًا مهم.اليوم أمام هذه الغيبوبة القاسية لا نملك إلاّ الدعوات وحبنا الكبير، حتى زوجته الفاضلة التي سألتها عن أحواله قبل يومين، أجابت بكل محبة، أنه بين يدي خالقه، نتمنى أن تصل دعواتنا له بكل السلام. أدرك سلفًا أن الكلمات التي ينشئها الكاتب تبقى، لكن نريد أن يبقى الكاتب أيضًا يملأ شتاءاتنا العربية القاسية دفئًا برواياته ونصوصه العالية والمميزة.نعيش زمنًا شديد القسوة وصلت فيه الخيبات إلى أقاصيها، كل أحلامنا التي بنينا عليها تاريخًا ظنناه حقيقة، تتبخر. مات عبدالناصر وترك وراءه ميراثًا إنسانيًّا لم يتممه ليصحح مزالقه. وكلما ظننا أن زمنًا سيحول الهزيمة إلى انتصار لاحظنا فجأة أننا لم نخرج من دائرة التخلّف ولكن غرقنا فيها قليلاً. انتفت أحلام الدولة العربية الديمقراطية ومعها ماتت المواطنة التي بذلنا العمر كله لنراها تتحقق. واليوم يتفكك كل شيء في حركة دوران عكسي يقود حتمًا إلى الانتفاء النهائي. لهذا، أنا على يقين، يقين الكاتب فقط، أنه سيعود محمّلاً بالمشاهد التي ستكون موضوع رواية قادمة مليئة بالروحانيات والتجلّيات، كما تبدت له في شكل أنوار معمية للأبصار ولا يراها إلاّ مَن سكن النور قلبه وكل حروفه.صحيح أن متاعب الحياة تجعلنا أحيانًا نفكر في اختصار الألم، بسبب ثقل المآسي التي تحيط بنا، لكن ندرك في أعماقنا أن لا شيء يضاهي الحياة مهما كانت مغريات الموت وسكينته الأبدية، فجأة تينع فينا شجرة تشبه زيتونة، عرقها في الأرض وفروعها شديدة الخضرة، فتنتابنا الحياة من خلال الإصرار على الكتابة. في انتظار عودته إلى مكانه الطبيعي في الصفوف الأمامية للرواية العربية، أعود للتجليات بحثًا عن السر العظيم الذي جعل هذا النص ينحت مكانه في سماء الآداب العالمية، أتذكر جيدًا يوم خرج في باريس باللغة الفرنسية وكان جمال حاضرًا واستغربنا كيف استطاع الغربيون إن يصلوا إلى عمق نص هو عربي بامتياز؟ إنسانية النص هي كل شيء.