في حتمية المراجعة الجذرية لـ«العلوم الشرعية»: مقدمة «١»

ما مِن علمٍ من العلوم الشرعية، سواء كانت تلك التي تُسمى أصليةً أو (أساسية) أو (علومَ مقاصد)، أو التي تُدعى علوم الآلة (أو العلوم المُسَاعِدة)، إلا كتبهُ رجال (وفي الأغلب بالمعنى الحرفي للكلمة). أي كتبهُ بشرٌ، يُصيبون ويُخطئون، اجتهدوا لخدمة دينهم، بما توافر لديهم من قدرات فكرية وذهنية، ومن معرفةٍ كانت مُتاحةً في تلك العصور، ومن أدوات ووسائل وتقنيات وعلوم (أخرى) وطرق دراسة وتحليل علمية ومنهجية شكَّلت مبلغَ عِلمهم في زمانهم.

يترتبُ على هذا أن كل فكرةٍ كانت وراء أحد تلك العلوم، بكل تفاصيلها، وكل رأيٍ وردَ فيها، وكل تفريعٍ وتبويبٍ حصلَ داخلها، هي أيضاً من بنات أفكار أولئك الرجال. الذين كانوا، مرةً أخرى، رجالاً، بشراً، يُصيبون ويُخطئون، اجتهدوا لخدمة دينهم، بما توافر لديهم من قدرات فكرية وذهنية.. إلخ.


وإذا أخذنا بعين الاعتبار الاختلاف (وليس بالضرورة الخلافَ) الكبير المعروفَ والمُدوَّنَ (تاريخياً) بين أولئك الرجال، والذي يمكن أن نجده (عملياً) اليوم بالبحث والتنقيب في إنتاجهم، وهو اختلاف يكاد يشمل كل مسألةٍ من المسائل الواردة في تلك العلوم، ويصل في بعض الحالات إلى حد التناقض الكامل في الرأي والفكرة والحُكم.

وبعيداً عن المُجادلة والحِجاج في هذه الحقيقة، يكفي أن ننظر في عدد الكتب والمجلدات والفصول التي تتحدث، بطيبِ نيّة، عن (أسباب اختلاف المفسرين) و(أسباب اختلاف المُحدِّثين) و(أسباب اختلاف الفقهاء)، مثلاً، على امتداد التاريخ الإسلامي، لنُدرك أن ذلك الاختلاف موجودٌ موجود. وأن الجدلَ فيه يغلب أن يُصبحَ جدلاً مذموماً.. كما يَعرِفُهُ ويُعرِّفهُ العلماء.


وإذا أخذنا بعين الاعتبار أيضاً أن تلك الجهود كلها كانت، كما ألمحنا أعلاه، استجابةً لحاجات عصرها، ومحاولةً للتعامل مع تحديّات زمانها ومكانها المعيَّنين، ومحاولةً للإجابة على أسئلةٍ تتعلق بكيفية تنزيل الدين على الحياة الإنسانية، بحيث تكون تلك الحياةُ (طيبةً)، وبحيث يكون مآل الإنسان في الآخرة إلى الجنة.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار الإجماع الموجود بأن الرسول الكريم تُوفي في السنة الحادية عشرة للهجرة، والذي يعني، بكل أنواع المراجعة التاريخية، والمنطقية، أن المسلمين عاشوا على الأقل قرناً كاملاً، دون أن يضيع إيمانهم، قبل أي عملية تدوين للتفسير والفقه والحديث وغيرها. وأنهم استطاعوا أن (يعيشوا) هذا القرن، يُشيّدونَ ويَعمِّرُون. يجتهدون، فيصيبونَ ويُخطئون. يختلفون ويتقاتلون. يتفاهمون فيصطلحون. يجتاحون الأرض من حولهم، فتصل (دولتهم) إلى أقصاها تاريخياً، من أطراف الصين شرقاً إلى جنوب فرنسا غرباً.. يبنون خلافتين تمثلان في عين الغالبية العظمى من المسلمين ما قد يُسميه هؤلاء (العصر الذهبي للإسلام). بل إن الذين يؤمنون بصحّة الحديث الوارد في (البخاري): «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ»، وهم غالبية المسلمين اليوم، يؤمنون بالتالي أن خير القرون في الإسلام كان قرناً لم تكن فيه علومٌ شرعية، ولم يكن فيه تدوين أصلاً، بالمعنى العلمي للكلمة.

عاش الإسلام إذاً، وعاش معه المسلمون، دون علوم شرعيةٍ أصلاً، قرناً كاملاً من الزمان. لم يختفِ دين الإسلام. لم يفنَ المُسلمون، أو يفقدوا إيمانهم بدينهم. بل على العكس تماماً، بلغَ الإسلام ذروته من ناحية المساحة الجغرافية (كدولةٍ تتحدث باسمه)، ومن ناحية الحيوية الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، بكل خيرها وشرّها الإنساني.

سيرتجف كثيرون عندما نصل معهم سوياً إلى الفقرة أعلاه.

سينسى هؤلاء كل تسلسلٍ منطقي رسمنَا صورتَهُ من بداية المقال.

وسيقفز ظنهم، الذي سيكون سيئاً، إذا لم يتابعوا هذه السلسلة من المقالات بأسرها، إلى أن الهدف (الخفيّ) منها يكمن في (مؤامرةٍ) تتمثل في الدعوة لإلغاء العلوم الشرعية.

ليس هذا هدَفنا، ولستُ، في معرض التخطيط لمثل تلك المؤامرة.

وإنما نحن سوياً في معرض المساهمة لفتح هذا الملف الحساس، والمؤثر في حاضر المسلمين ومستقبلهم، وحاضر العالم ومستقبله، بشكلٍ واضحٍ ومنهجيٍ ومسؤول، بقدر ما في الوسع البشري من طاقة.

للتوضيح والبيان: سنضع (علم العقيدة) جانباً في هذه المقالات، لنعود إليه في نهاية السلسلة. لكننا سنضع نصب أعيننا أن نوضح، على الأقل، لماذا تحتاج علوم (التفسير) و(الحديث) و(الفقه)، تحديداً، إلى مراجعةٍ جذرية وشاملة.

وسندعو، بكل قوة، إلى أن يُشارك في العملية رجالٌ ونساء. نَعلمُ أنهم بشرٌ، سيُصيبون وسيُخطئون. لكنهم سيجتهدون لخدمة دينهم، والمسلمين، والبشرية جمعاء، بما يتوفر لديهم، في هذا العصر، من قدرات فكرية وذهنية، ومن كل معرفةٍ مُتاحة فيه، ومن أدوات ووسائل وتقنيات وعلوم (أخرى) وطرق دراسة وتحليل علمية ومنهجية تشكَّلُ مبلغَ عِلمهم في هذا الزمان.

أخبار ذات صلة

«اسحب على الجامعة يا عم»!!
حكاية مسجد في حارتنا..!!
شر البلية ما يُضحك
أطفالنا والشاشات
;
الرد على مزاعم إسلام بحيري في برنامجه إسلام حر
السعودية ومرحلة الشراكة لا التبعية
جلسات علمية عن الخلايا الجذعية
الشقة من حق الزوجة
;
المزارات في المدينة المنوَّرة
خطورة المتعاطف المظلم!
خطورة المتعاطف المظلم!
لماذا يحتاج العالم.. دبلوماسية عامة جديدة؟!
أدب الرحلات.. والمؤلفات
;
كيف نقضي على أساليب خداع الجماهير؟!
المتقاعدون والبنوك!!
د. عبدالوهاب عزام.. إسهامات لا تُنسى
فلسفة الحياة.. توازن الثنائيات