نداءات العيد.. ووجه أبي البعيد!

اقترب العيد، واختفيت من لندن تمامًا! كان السياح يتدفقون على العاصمة البريطانية، وكنت أصعد الى القطار المتجه الى مدينة «دوفر»، حيث أقنعني زميل عزيز بضرورة المغادرة، والتوجه الى بلدة زوجته الإنجليزية، لاستشعر معه رائحة الأهل، وروعة اللمة، حول الديك الرومي الذي سيذبحونه مساء العيد، عله يذكرك بطقوس الأضحية!

كان عيد الأضحى في السنة الأولى لإقامتي في لندن يواكب أعياد الميلاد، ومن ثم وافقت على العرض، بعد أن بحثت وقرأت وصفًا للإدريسي عن «دوفر» في كتابه نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، وليتني ما اخترقت!


والذي حدث أنني منذ وصلت، في ذاك المساء الشتوي الكئيب، حتى غادرت، لم أجد سوى الثلوج والجليد!

المدينة تنام مبكرًا من فرط البرد، حيث تطل على بحر الشمال، والفندق الذي أقيم فيه لحين موعد العشاء يطل على بحر المانش، فاذا نظرت من النافذة الخلفية للغرفة، شاهدت الشوارع خالية من البشر ومن الطير ومن الحجر!


حان موعد العشاء في اليوم التالي لوصولي، وتدفق الأبناء والأحفاد، من أهل زوجة زميلي العزيز، وتم توزيع لحم الديك، فلم أشعر بطعم الرومي ولا طعم العيد، وكنت في الصباح أعود!

في القطار، طفت بذاكرتي، أو طافت بي محلقة فوق بيتنا القديم.. إنه البيت الذي يعكس وجوهنا ودواخلنا وخطانا، وموسيقى أسمائنا.. فجر أيامنا، ونداء آبائنا وأمهاتنا، والخير الذي ظل يفيض من حولنا، والحليب الذي فاض من ضروع جاموسنا وأبقارنا!

نعود كل عيد، فنشعر ولو لأيام أو سويعات، أن كل ما رحل ويرحل عنا يعود! جلال وجمال الكبار وفرحة الصغار، وروعة الحقول والزهور.. تدخل نجوانا بوجهها القمر، ويؤمنا أخونا الكبير الذي صار أبًا لنا، فنشعر أن جمعنا، هو أغلى ما في الوجود..

أتفقد الوجوه والصفوف وأتذكر كل غائب حبيب، حالت دون مقدمه الظروف.. أطوف داخل البيت من جديد!

هذه الغرفة باتت تضيق! كلما غاب أحدنا عنها تضيق! والصالة التي كانت واسعة كلما خلت من أحدنا تضيق!


يلوح وجه أبي، بندائه العذب، وسعاله الآتي كالسحاب، فاذا هش في وجوهنا، وجلس بيننا تحولت الصالة الى سجادة بيضاء!

يلوح صوت أمي الحاضرة معي والساطعة.. تضحك وهي تسأل الأحفاد: من كسر هذا الكوب؟ ومن الذي سيأتي معي لتأكيل الديوك الأربعة؟

يتنافس الصغار.. قبل أن يلوح وجهها كالقمر الكبير، وتحت ضوئه أقمار! القمر الأصغر سافر، واصطحب معه قمر آخر، والقمر الأكبر والأجمل لنفيسة الخير غادر.. ويمضي بي القطار!

إنه قطار العمر الذي يمضي بسرعة.. أحس بإيقاع سرعته في الغربة، فيتملكني الخوف على الأولاد والأحفاد من الفرقة.. ألوذ من جديد بوجه أبي.. أخاطبه بصوت مسموع وعيون تملؤها الدموع.. أبي! يا أبي! خذ مقلتي وهات حكمتك، خذ عيني وهات ضوئك، كي أوقد شموع الحنين حتي لا ينطفئ! اطرد من قلبي هذا الخوف.. انزعه عني، كي أواصل مسيرتي مع اخوتي، وحتى لا تفر طيور الحنين من قبضتي!

أمي! دعيني أتحسس مكان جلستك، حتى إذا غابت عني وصيتك نبهني صوتك! عديني أمي، ألا يتأخر وجهك عني، حتى لا تجف ينابيع الشوق لإخوتي!

أزيح عن نفسي هذا الشعور بالرهبة، فأستحضر مسرح العمليات الذي يجهزه أخي مساء كل وقفة.. وفي الصباح يتوالى ذبح الأضاحي.. دم مراق يجري كالقنوات.. الاولى لليتامى والمساكين والفقراء، والأخرى للأهل والجيران والأصدقاء، والثالثة لأهل البيت!

صوت البقرة يرن ليعلن، جمال الكون.. فتعالى واطمئن! مازال البيت مضاء، والطير يغرد، والنحل يطن!

أخبار ذات صلة

عندما تُخطئ.. لن تنفعك نواياك الطيبة
أمين كشميري.. الرَّجلُ المهذَّبُ
الأمن.. والفقر.. والفساد..!!
السيناتور وغزَّة.. والولد الصَّغير!!
;
عضوية فلسطين في هيئة الأمم.. أحقية قانونية
الحركة المرورية.. وأهل المدينة!!
الأعرابُ.. وردُّ الجوابِ..!
هل التجنيد العسكري هو الحل؟
;
حصاد الخميس..!!
أهالي شدا الأعلى والتعاون المثمر
خيارات المسيَّر: ملكوت الشعر وجنونه
علامات بيولوجية جديدة للكشف عن السرطان
;
معيار الجسد الواحد
قراءة.. لإعادة هيكلة التعليم وتطويره في بلادنا
دراسة الرياضيات
«يا أخي الهلاليين لعيبة»!